حسب استطلاعات رأي متعددة حديثة، هناك ازدياد في نسبة الفلسطينيين الذين يعتقدون بوجود فساد في المؤسسات الفلسطينية، حيث أشارت نتائج أحد هذه الاستطلاعات التي تمت في عام 2015، أن حوالي 92% من الفلسطينيين يعتقدون بوجود فساد في المؤسسات الفلسطينية، مقارنة مع نسبة حوالي 66% في عام 2013، وهذا يعني أن هناك ازدياداً في نسبة الاعتقاد بوجود فساد بحوالي 26% بين عامي 2013 و2015، وهذا بحد ذاته يطرح العديد من الأسئلة وحتى حالات من الاستغراب، وبالأخص في ظل تصاعد الحملات والنشاطات والجهود والقوانين التي تمت وتجري في بلادنا في إطار عملية مكافحة الفساد.
والاستنتاج السريع والبسيط من نتائج هذه الاستطلاعات، ان تأثير نشاطات مكافحة الفساد على المواطن الفلسطيني العادي لم يكن إيجابياً، سواء أكانت هذه النشاطات تتم من خلال الجهات الرسمية، او من خلال جهود منظمات المجتمع المدني وهي متعددة، او من خلال وسائل الإعلام، وهذا بحد ذاته يطرح تساؤلات كبيرة حول جدوى هذه النشاطات والحملات والقوانين والندوات والمؤتمرات وما الى ذلك، أو حول مدى نظرة المواطن للمجالات التي تتم فيها هذه النشاطات، أو حول طبيعة النتائج أو الأثر الذي يتوقعه المواطن.
هذا المواطن، الذي ما زال يرى وبأغلبية ساحقة أن هناك فساداً مستشرياً ويزداد في بلادنا، وهذا بدوره يطرح موضوع أهمية إجراء عملية تقييم موضوعية مستقلة وعلمية لجهود مكافحة الفساد في بلادنا، سواء أكانت هذه الجهود تتم من خلال جهات رسمية أو غير رسمية، ومن ثم نشر نتائج التقييم وبالتالي تعديل أو تغيير المسارات، والتي من الممكن ان تؤدي في المحصلة الى نتائج مستدامة تحدث تغيير في أوضاع وحياة الناس، ويكون لها أثر إيجابي على المواطن ألفلسطيني، وبالأخص الجيل الشاب، الذي هو من يتم التعويل عليه للقضاء أو للتقليل من الفساد.
ومن المعروف أن من أهم معايير تقييم المشاريع أو البرامج او الأعمال أو الخطط الاستراتيجية، وبغض النظر عن أنواعها، بالإضافة إلى الفعالية والآثار ومدى حاجة الناس إليها، هو الاستدامة، او مدى تواصل تأثير العمل بعد الانتهاء منة، أو تواصل التأثير او التأثر بدون الحاجة إلى تدخل أو دعم جديدين، وهذه الأيام الجميع يتحدث عن مبدأ الاستدامة، في التنمية والتعليم والتدريب، وفي الاستثمار بأنواعه، وحين الحديث عن الاستثمار في البشر، فأن الاستثمار المستدام في البشر يعني الاستثمار في الشباب، وما لذلك من تواصل آثار هذا الاستثمار، وفي مختلف الأصعدة، ومنها مكافحة الفساد، وبأنواعه، من الفساد الإداري، والفساد المالي، مرورا بفساد الأغذية والأدوية، الى الفساد المتعلق بتلويث البيئة من مياه وهواء وأراضٍ وما الى ذلك.
والاستثمار المستدام في الشباب في مجال مكافحة الفساد يعني اتباع الأساليب الصحيحة لذلك، من الناحية النظرية ومن خلال الممارسة العملية، وسواء أكان ذلك من قبل الجهات الرسمية الفاعلة في مجال مكافحة الفساد في بلادنا مثل هيئة مكافحة الفساد، او من قبل الهيئات الأهلية مثل مؤسسة "أمان" مثلا، وهذا يعني التوعية والتثقيف والتدريب وبأسلوب واضح وبسيط يظهر الإيجابيات لمكافحة الفساد، بدءاً من التجمعات المحلية والمدارس والجامعات والأطر المختلفة، وهذا يعني تبيان سلبيات الفساد وتداعياته والمعاناة التي يسببها ومن خلال الأمثلة.
وهذا يعني كذلك، الإظهار للشباب التداعيات القانونية والاجتماعية والسلوكية والتنموية وحتى على الاقتصاد للممارسات الفاسدة، ومن خلال الأمثلة، ولتكن الأمثلة من واقعنا ومن بلادنا، ونحن نعرف انه في الفترة الماضية كان هناك كشف وملاحقة قضايا فساد، او أشخاص فاسدين، وأخذ ذلك حيزاً إعلامياً، وبغض النظر عن حجمها او نوعها او نوعية الأشخاص الذين قاموا بها، ولماذا لا يتم استثمار مثل هذه القضايا في مجال بناء مفاهيم مكافحة الفساد عند الشباب الفلسطيني، ولماذا لا يتم استخدامها ومن خلال الإعلام وبأسلوب موضوعي بعيدا عن الإثارة للوصول الى الشباب، الذي سوف يعتمد عليه في بناء وتنمية هذا المجتمع، بعيداً عن مفاهيم وممارسات الواسطة والمحسوبية والرياء والدجل والرشوة وما الى ذلك.
والاستثمار المستدام في الشباب الفلسطيني لمكافحة الفساد يعني ازدياد الوعي بضرورة الإبلاغ عن الفساد سواء أكان من قبل الأفراد او من الهيئات، وعلى الأفراد أو على المؤسسات، وان تم ذلك، فإن هذا يعني أن المواطن وبالأخص الشاب، الذي في اعتقادي هو حجر الزاوية في هذه العملية، المطلوب توفير الحماية المعنوية والمادية له، والمطلوب إرساء ثقافة أهمية العمل في الإبلاغ عن الفساد كثقافة راسخة في مجتمع مثل مجتمعنا، الذي بأغلبيته الشابة، هو الأساس للوصول الى ما نطمح له من رؤيا، من بناء مجتمع فلسطيني خال من الفساد.
ولا يجادل أحد بأهمية دور الشاب الفلسطيني، كمستهلك، في مكافحة الأغذية والأدوية الفاسدة وفي مكافحة ممارسات تلويث البيئة من مياه وأراض بالنفايات الصلبة، أو بالمياه العادمة أو بالمواد الكيميائية، وكذلك دوره في مكافحة فساد ارتفاع الأسعار والتلاعب بها، وغير ذلك من أشكال الفساد وأنواعه، وكذلك دوره في الحد من ممارسات في أحيان عديدة اعتدنا عليها أو نتبجح بها، ومنها مثلا فساد السياقة في الشوارع، لأن من لا يحترم قوانين السير سوف يؤذي الآخرين، ومعروف ان من تداعيات الفساد هو الإيذاء او إلحاق الضرر بالآخرين او بممتلكاتهم، وبغض النظر عن نوعية او مدى هذا الضرر.
وحتى يتم إجراء عملية التقييم الموضوعية، وبالتالي العمل في مسارات يكون لها تأثيرٌ إيجابي على الناس، فإنه يجب العمل على إزالة الخوف عند المواطن للإبلاغ عن الفساد، وكذلك العمل من أجل تطبيق القانون وبسرعة، والابتعاد ولو تدريجياً عن الواسطة التي ما زالت تستشري في أجسادنا ونمارسها في حياتنا، وهذا كله يتطلب زيادة التواصل مع المواطن الفلسطيني الذي هو الأساس لنجاح مستدام لعملية مكافحة الفساد، سواء من حيث بث الوعي أو من حيث الإجراءات على الأرض، وان تم ذلك بالأسلوب والممارسة الصحيحة، سوف يؤتي بثماره، ان لم يكن الآن فربما بعد سنوات وبشكل مستدام وذي أثر إيجابي، ينعكس بدوره في نتائج استطلاعات الرأي.