يُخرج رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، من جعبته، بين الحين والآخر، ما من شأنه التعبير عن عدم رغبته في استئناف المفاوضات للتوصل إلى تسوية سياسية مع الجانب الفلسطيني، فهو يتأرجح بين ضرورة الاعتراف الفلسطيني بأن الكيان «الإسرائيلي» دولة لليهود، وسلام اقتصادي بلا مضمون سياسي.
وأخيراً أخرج من جعبته المقارنة الغريبة، وهي أن الفلسطينيين يطالبون بتطهير عرقي لليهود من الدولة الفلسطينية المقترحة، أي دولة بلا يهود، بينما «إسرائيل»، على حد قوله، تضم مليوني عربي، يعيشون بسلام، ولا أحد يطالب بتطهير عرقي ضدهم. وهذه المقارنة لم تكن في محلها، إذ لا يمكن مقارنة من هو صاحب الأرض، في وطنه، بمستوطن حديث الوصول، استولى على الأرض بقوة السلاح، في وسط ديموغرافي مختلف تحت الاحتلال. واعتبر نتنياهو وجود المستوطنين لا يشكل عقبة أمام السلام.
اتهام الفلسطينيين بالسعي للتطهير العرقي، لأنهم يريدون إزالة الاستيطان، أثار حملة انتقادات واسعة، بما في ذلك انتقاد الخارجية الأمريكية، التي اعتبرت استخدام هذا التعبير ليس ملائماً، وليس بناءً، ورأت أن استمرار بناء المستوطنات، يشكل عقبة في طريق السلام. وجاء التصريح الأمريكي، في وقت وقعت فيه الإدارة الأمريكية على أكبر رزمة مساعدات للكيان، تبلغ 38 مليار دولار، على مدى عشر سنوات، هي الأكبر في تاريخ الإدارات الأمريكية.
لم يستخدم تعبير التطهير العرقي ضد اليهود في الأدبيات الفلسطينية قط، بل من يرفع لواءه هي أحزاب يهودية، على رأسها الليكود والأحزاب التي تتحالف مع نتنياهو في حكومة عنصرية واحدة، لا تؤمن بقيام دولة فلسطينية، وتؤيد المشاريع الاستيطانية في أي مكان، وتستعد لإضفاء شرعية على نحو مئة مستوطنة عشوائية، أقيمت في السنوات الأخيرة، ولا تعرض أي حل سياسي مستقبلي سوى طرد العرب، سواء من داخل فلسطين 48، أو من الضفة إلى الخارج. فالإيديولوجية الصهيونية القديمة تستمد استمرارها من فكرة التطهير العرقي. ولعل تهجير الفلسطينيين من أراضيهم عام 1948، لم يكن صدفة كما ادعى البعض، بل كان مخططاً على مدى عشرات السنين، حيث دأبت الحركة الصهيونية على جمع كل المعلومات عن القرى والمدن الفلسطينية وأوضاعها الاقتصادية، بدءاً من ملفات المستشرقين القدماء، حتى قيام باحثين يهود بهذه الدراسات المفصلة، التي شملت التركيبة السكانية والعشائرية والتوجهات السياسية للفلسطينيين ومشاركتهم في الثورات المتوالية، وعددهم وسلاحهم ومن منهم قتل يهوداً في المعارك.. إلخ، وكلها تفاصيل موثقة استخدمت لاحقاً ضمن مخطط التهجير الكبير عام 1948.
كان المؤرخ اليهودي، إيلان بابيه، أصدر كتاباً حول التطهير العرقي أكد فيه، بما لا يدع مجالاً للشك، أن التطهير العرقي كان مخططاً، وفقاً لما قاله ديفيد بن غوريون عام 1947، بأن التطهير العرقي يشكل وسيلة متممة من أجل ضمان أن تكون الدولة الجديدة يهودية خالصة.
فالتطهير العرقي مازال يراود الفكر الحاكم في «إسرائيل» باعتباره الحل للمشكلة الفلسطينية، أي طرد الفلسطينيين بالكامل. وكان وزير الحرب ليبرمان طرح في السابق فكرة تبادل السكان، أي ضم مئات الآلاف من الفلسطينيين داخل الكيان إلى الضفة الغربية، مقابل إخلاء بعض المستوطنات، إلّا أن نتنياهو يريد ما هو أكثر، أي لا كيان، ولا دولة للفلسطينيين. مادامت الفكرة الصهيونية تريد دولة يهودية لليهود فقط، وهي التي يرددها نتنياهو يومياً، ويطالب السلطة الفلسطينية بالاعتراف بها، فهو كمن يطلب من الفلسطينيين نفي وجودهم على هذه الأرض.
عملياً، استخدام إعادة ظهور مصطلح التطهير العرقي، على لسان نتنياهو، لا يشير إلى أي رغبة في السلام بالمطلق، وقد قرن رئيس الوزراء «الإسرائيلي» دائماً مطلبه بالاعتراف بيهودية «إسرائيل»، باستعداده للاجتماع مع الرئيس الفلسطيني من دون شروط. كيف من دون شروط، وهو يشترط دوماً الاعتراف بيهودية «إسرائيل»؟
في الأسابيع الأخيرة كشف نتنياهو عن عدم رغبة في أي لقاء مع الجانب الفلسطيني، فبعد أن أصدر مئات التصريحات عن استعداده لهذا، تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واستمزج رأي الرئيس الفلسطيني لعقد مثل هذا اللقاء في موسكو، فأبدى الأخير موافقته، وهنا أوفد الرئيس الروسي نائب وزير خارجيته، بوغدانوف، إلى «تل أبيب» لعرض الفكرة على الجانب «الإسرائيلي»، فحاول نتنياهو التملص بالقول إن الرئيس الفلسطيني لا يرغب في اللقاء، لضيق وقته، لأنه مشغول في الانتخابات المحلية، وهكذا.. وألح بوغدانوف عليه، بأن أمر الجانب الفلسطيني متروك للرئيس بوتين، وأنه يريد أن يسمع موقفه هو، فماطل نتنياهو، وقال إنه سيدرس الفكرة لاحقاً.
عملياً كان لا يريد أي لقاء، وتصريحاته هي للاستهلاك الإعلامي فقط، والدليل أنه كرر رغبته في عقد لقاء مع الرئيس الفلسطيني، أثناء اجتماعه برئيس وزراء لوكسمبورغ، قبل أيام، وهو يعلم أن الآخرين يعلمون أنه كاذب.
إن استخدامه تعبير التطهير العرقي، ومقارنة المواطنين الفلسطينيين في أرضهم بمستوطنيه كشرط جديد، يؤكد عدم رغبته في التفاوض، فهو، عملياً، يشن حملة تطهير ضد مساعي السلام.
عن الخليج الاماراتية