أسهب المعلم في الحديث عن براعة التحنيط وصلابة المومياء ...
تحدث عن إفراغ الجسد من أحشائه ...
عن قماش خشن الملمس تلفه أيد مدربة حول الجثة ...
عن جسد تشكل مرة أخرى من الموت ...
بقي درس التحنيط متماسكا في الذاكرة كما المومياء المخزنة في التابوت ...
كما المدن التي أفرغتها الحروب من الحياة وصارت ممددة في السرد اليومي ...
* * *
ستكتشف بلادا في رحلتك نحو المجهول، محتفظة بجرار الزيت والخبز وقلائد نساء وجداريات تركها رسامون وشعراء في المساحة المعدة للقيامة ...
ستكتشف حياة في الطبقات المعتمة ...
ومومياء متماسكة، كأنها للتو خرجت من جسد الغياب لتدخل في حيز الانتظار والتأويل ...
ستكتشف براعة التاريخ في الحجب والإخفاء والظهور المعلن في واجهات المقابر ...
ستقرأ ميلادا عفويا أنجبته المأساة، كطفل تائه على طوافة خشبية فوق الماء، يبكي غياب أبوين ومهد وقماط قطني ناعم الملمس ...
ستقرأ حربا مرت كعاصفة ترابية، كحزمة برق أصابت شتاء القرويين بالهلع والحريق، قبل أن تختطف الطمأنينة في سراديب العتمة والبرد ...
* * *
منذ درس التاريخ، والمومياء ...
لم تعد صورة المكان تشبه المكان، لم يعد القبر قبرا ولا حجرات الموت المطلة على القيامة بأجساد محنطة ...
صار الوقت مزارا لدهشة غامضة وحزن أمام مومياء في تابوت في غرفة محكمة الإغلاق يطل عليها زوار متحف البشرية بالتصوير والإنشاء، وأفكار محتملة لأبحاث قادمة في الأركيولوجيا واثنوغرافيا المجتمعات ...
صرت تحمل صدى الدرس القديم على ظهرك كجنازة سرية، كمدينة جففتها العاصفة من الندى الصباحي، ونداءات الباعة المتجولين، وابتسامات أطفال في خطواتهم نحو المدارس ...
لتستقبل دوي البرد في الطرقات المعتمة، كما تستقبل الخوف وفوهة الدبابة وأزيز طائرة الاستطلاع الخانق ...
* * *
أفكر طويلا في تحنيط الأشياء في ذاكرة مدن تركتها الحروب للسرد المضطرب في ممرات انتظار باردة ومخيمات لاجئين على تخوم لمبات النيون الصفراء وأبراج حراسة ...
ربما تزول آثار العاصفة - الموت وتعود الشمس بأرواح المنفيين الغائبة علهم يجدوا الأشياء لم يبعثرها البارود ...
سأحنط مواء قطة الجارة العجوز، وصياح ديك الحي، وألعاب الصبية في الحارة ...
سأحنط بشاشة الورد على شرفة المنزل، صدى موسيقى الرحابنة، غناء فيروز الصباحي، فرحة الأعياد العفوية، رائحة الخبز الطازج، ابتسامات عاجلة في السوق، حفيف صنوبرة حاورت أجنحة العصافير ...
ولن أنسى درس معلم التاريخ عن فلسفة التحنيط في انتظار القيامة .