بينما كانت تجلس في مكتبها صباحا في إحدى وزاراتنا، وتتابع عملها كالمعتاد، رنّ هاتفها المكتبي رنّات متتالية، رفعت سماعته، وأجابت:
- صباح الخير .. من معي على الهاتف لطفا؟
- صباح النّور.. أنا اسمي "محمد .." موظف في تلفاز فلسطين، وأريد إبلاغك بأنه سيتم عقد لقاء مع وفود فنيّة فلسطينية قادمة إلى الوطن من الشتات في مقر وزارة الإعلام برام الله!! التي جاءت من: الأردن، ومصر، وقطر، والإمارات، والبحرين بتنسيق مع الأخ " حسين .. " لكسر الحصار وعمل مسلسلات ولقاءات.. ثم سكت عن الكلام !!
- يا أخي، أنا ما علاقتي بذلك؟ أنا بعيدة كل البعد عن الفن وأهله، يبدو أنك اتصلت بالعنوان الخاطئ؟
لقد قصد "محمد" عدم إكمال كلامه لإخفاء السِّر عنها، والمفاجأة المذهلة التي تنتظرها، واكتفى بالقول:
- لقد أحببنا الاتصال بشخصيات من الوزارات للمشاركة وإثراء اللقاءات، ونحن نتشرف بحضورك إذا لم يكن لديك المانع، وسنتصل بك بعد يومين لتحديد المكان والزمان !! ثم انقطع الاتصال بعدما ترك عدة أسئلة تدور في خَلَدها وتحتاج إلى إجابات !!..
دهشت مما سمعت، لأن كلام" محمد" أثار استغرابها، توقفت عن العمل برهة، وبدأت تفكر في الأمر مليّا، وتسأل زميلاتها في الغرفة عن خلفيات الدعوة الهاتفية !! لماذا لم يوجه الدَّعوة إلى كُتّاب الوزارة، أو دائرة الثقافة ؟ إنه فعلا لأمر عجيب !
صارت تحدث نفسها، لا بدّ من الاستفسار أكثر منه حول الموضوع، واستيضاح الأمر !! لقد شغلني كلامه لدرجة أنني نسيت أن آخذ رقم هاتفه للأسف الشديد .. لنترك الأمر برمّته للأيام فهي الكفيلة بالإجابة .. الله يجيب الخير ..
لم تتمكن من العودة إليه ثانية .. غاب المتكلم وغاب السّر معه .. عادت واستمرت في عملها، بعدما دوَّنت في مفكرتها ما قاله "محمد"، والدَّعوة غير كاملة المعالم....
"ريم" عمّة "محمد" تعرّفت على شخص في هذه المجموعات، وأبلغت "محمد" بأن له صلة قرابة مع موظفة الوزارة ولهما قصة طويلة ومؤلمة .. لهذا "محمد" أخفى في صدره باقي موضوع الدّعوة حتى تكون المفاجأة المثيرة ..
بعد يومين من الاتصال الأول، جاء الاتصال الثاني من وزارة الإعلام صباحا..
- صباح الخير سيدة "رجاء"..
- صباح النّور..
- تتشرف وزارة الإعلام بدعوتك اليوم للحضور والمشاركة في اللقاء مع الوفود الفنية، المكوّنة من: مسرحيين، وسينمائيين، وفنانين، ومخرجين..الخ المزمع عقده في مقر الوزارة في تمام الساعة الحادية عشرة صباحا، مع التأكيد على ضرورة الحضور بالتنسيق مع الآنسة "بثينة .." دون ذكر السبب أيضا.. انتهت المكالمة الثانية.. أصبحت "رجاء" تغلي من الدَّاخل، ومتشوِّقة لمعرفة ما يدور حولها.. عبأت إذن مغادرة وقدمته لمديرها العام للتوقيع، ثم وضّبت نفسها بسرعة، وحملت بيدها ما توفر من أقلام وأوراق، ثم انطلقت حثيثة الخُطى نحو مكان اللقاء...
عندما وصلت مبنى وزارة الإعلام كانت في استقبالها أمام المدخل الرئيس الآنسة "بثينة"، صافحت "رجاء" المستقبلة بحرارة، وتعرّفت عليها ثم اقتادتها "بثينة" إلى المصعد الكهربائي، ومن ثم إلى قاعة الاجتماع في أحد الطوابق العلوية .. دلفت "رجاء" إلى القاعة .. أدّت التحيّة المتعارف عليها.. ثم عرّفت بنفسها.. كان المشاركون جالسون بشكل بيضاوي وفي نقاش عاصف .. أما مقعدها فقد كان معدا سلفا.. طلب منها مدير اللقاء الجلوس على مقعدها المخصص لها.. وكان يعلو الطاولة المستديرة، الورود، والحلوى، والعصائر للضيافة.. بدأت "رجاء" تقلِّب نظرها بين الحاضرين في محاولة للتعرّف عليهم!! وترسل مجسَّاتها هنا وهناك لتَستَشِف ما يجري!!.. الوجوه غريبة، لم تلتق بها من قبل.. لم تتمكن من التعرّف على أي منهم.. جلست كالغريبة بينهم..
في هذه اللحظة، أوقف مدير الجلسة النقاش فجأة، فساد هدوء مطبق، ووجوم متسائل، وقال لهم: توجد في هذا اللقاء مفاجأة سارّة لاثنين لا يعرفان بعضهما البعض، وتربطهما صلة قرابة وثيقة.. وسكت عن الكلام المباح..
صارت عيون الحضور تبحث عن بعضها البعض، ويتهامسون فيما بينهم، ويتساءلون؟ لا أحد يعرف الآخر للأسف الشديد، لا الشتات يعرف من في الدّاخل ولا الدّاخل يعرف من في الشتات!!!!
تابع مدير اللقاء: السيدة "رجاء.." عرّفت بنفسها لحظة دخولها القاعة، أما الآن فقد جاء دوركم لتتعرف هي على أسمائكم...
كل واحد نطق اسمه بالكامل، ومهنته، وأصله، ومكان إقامته بالتتابع، و"رجاء" تترقب بإصغاء مرهف حتى انتهوا، وقد خيّم على القاعة صمت تام وحزن ..الشتات يتساءل، والدّاخل يتساءل ؟؟؟ هذا موقف محرج فعلا..
هنا سأل مدير اللقاء الحضور:هل يعرف أحدكم الآخر؟ أو على الأقل من يعرف أحدا من الموجودين ؟..
لم يجب على سؤاله أحد!! إلا "رجاء" رفعت يدها، وصدحت بصوت عال،: نعم أنا أعرف السيد" عوني اللبابيدي"..
دهش "عوني" مما سمع واعترته قشعريرة غريبة من المفاجأة التي لم يتوقعها، صوّب نظره الثاقب إلى "رجاء" محدقا بها، وأطال التحديق.. أهو يبكي أم يفرح لا يعرف ماذا يقول سوى أنه بدأ بطرح وتوجيه الأسئلة إليها..
- أنت يا "رجاء" من هي أمك، وما هي العلاقة فيما بيننا؟
أجابته "رجاء" على الفور وبكل ثقة:
- أنا عرفتك من اسمك فقط، أمك اسمها "ميسر حمدان" وهي خالتي شقيقة أمي، وجدتنا هي "صفاء"، وخالنا "موسى" في الكويت، وخالنا "عمر" في الأردن، وخالتينا: هيفاء، ولمياء في الأردن، وأما خالتنا "ابتسام" فهي في أمريكا مع خالنا" عبد اللطيف"، وخالتنا "آمنة" في مصر، وخالتنا "كلثوم" في لبنان، وخالتنا "حنان" في قطر، وخالنا "محمد" في سوريا ...الخ...
عندما سمع "عوني" كل هذه التفاصيل، ارتجّت أطرافه واهتزت أركانه، وأقرّ بما سمع وأعرب عن استغرابه بهذا اللقاء المثير بعد طول غياب.. نهض من مكانه واقترب من "رجاء".. جلس بجوارها.. وسألها عن وضعها، وساورته الشكوك بكونها تعيش في الوطن السَليب.. التقطا الصور التذكارية معا، كما تبادلا أرقام الهواتف للتواصل معا... وما بين دموع الفرح وتصفيق الحضور تبقى قصة شعبنا المُشرّد..
لقد كان وقع هذا الخبر السّار، والمفاجأة عليهما كبيرا كالصاعقة، لم يكن يتوقع "عوني" في يوم ما أن يجد له أقرباء داخل الوطن بعدما هجّرهم الاحتلال بقوة الحِراب في عام 1948 من مدينة "يافا"، ليسكنوا بعد النّكبة في قطاع غزة، وهناك استشهد والده "صلاح اللبابيدي"، ووالدته " ميسر حمدان " إبَّان العدوان الثلاثي عام ،1956 وهي الحرب التي شنَّتها كل من، بريطانيا، وفرنسا ، وإسرائيل على مصر إثر قيام الرئيس الراحل" جمال عبد الناصر" بتأميم قناة السويس، حيث كانا من كبار الفدائيين المقاومين للاحتلال، وقد اقتحم الصهاينة منزلهم عن طريق البحر وتصدى لهم الشهيدان مع مجموعتهما الفدائية، واستشهدا داخل منزلهما، ومن ثم أقدم الصهاينة على شمع منزلهم بالشمع الأحمر دون أن يعرفوا بوجود طفل يدعى" عوني" أربع سنوات، وطفلة شقيقته تدعى" تُحفة" تبلغ من العمر سنتين داخل المنزل..
هكذا تركوهما، بلا زاد، وفي جو مُرعب، وفي بحر من دماء الوالدين.. وعندما هبّ المواطنون لإخراج الشهداء.. أزالوا الشمع الأحمر، واقتحموا المنزل، فوجدوا الطفلة" تحفة" تحتضن والدتها الشهيدة، أما الطفل" عوني" فيحتضن والده الشهيد ومخضبين بدمائهم الزّكية الطاهرة...
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تبنى الطفلين فيما بعد، أرسلهم إلى دار أيتام الشهداء بمصر حتى أكملوا تعليهما الجامعي، حيث أصبح "عوني" مخرجا سينمائيا وفنانا في الإمارات العربية، بينما شقيقته"تحفة" صارت معلمة، وتسكن في أمريكا مع زوجها.. أما "رجاء" فكانت تسكن في دولة الكويت مع زوجها وأولادها سابقا، وعادت أرض الوطن بعد حرب الخليج الثانية، ولم ترجع إلى هناك.
هذه هي قصة "عوني" و" رجاء"، هي قصة تحكي مأساة شعبنا الفلسطيني المُشتت في أصقاع العالم