سأقتبس بعضا مما جاء في المقالة الشهيرة للمبدع "حسين البرغوثي"، والتي حملت عنوان "الرشاقة الذهنية".
في تلك المقالة اعتبر البرغوثي أن من بين أسباب فشل التعليم في المنطقة العربية هو رغبة المعلم، أو قناعته بأنه يريد تغيير عقول التلاميذ، بدلاً من محاورتهم ومحاولة فهمهم واكتشافهم.. ورأى البرغوثي أن خلف هذه القناعة تكمن رغبة خفية في الهيمنة والسيطرة والتوجيه بقوة الديكتاتورية التي يمنحها النظام للمعلم.
وبعبارات ملطفة، يريد المعلم إخضاع التلاميذ لآرائه، وجعلهم امتدادا له، لكن النتيجة التي حصلت كرد فعل طبيعي على نظام القمع هذا تمثلت في حالة التململ والتنهد وعدم المبالاة لدى الطلبة، وهي المقاومة الخفية التي يمارسونها دون وعي منهم.. وعادة، عندما يخفق المعلم في فرض توجهاته على الطلبة تبدأ على الفور مرحلة العقاب؛ بالتوبيخ، بالعنف اللفظي، بالسخرية، وبالضرب إذا لزم الأمر، تحت حجة التربية والتهذيب، ومصلحة الطلبة.. وهنا سيكون الصف، في هذا النظام التعليمي، وكما وصفه البرغوثي عبارة عن "بؤرة تسودها علاقات القوة، والتي نسميها النظام، البرنامج، المنهج، وفي هذا النظام ميزان القوى بالكامل لمصلحة المعلم، الذي له الحق بإخراس جميع الصف".
وفقا لهذا النظام؛ فإن المعلم يلقن المعلومات للطلبة، ويربيهم، ويكمل المنهاج ضمن الوقت، ويقبض راتبه حلالا زلالا.. والطلبة بدورهم يحفظون المعلومات، ولأنهم مؤدبون، لا يزعجون المعلم بحركاتهم وأسئلتهم وشقاواتهم، وفي النهاية ينجحون في الامتحانات، وينالون تقديرات جيدة.. وينهون العام الدراسي، ويتهيأون لعام جديد.. وهكذا يسير نظام التعليم في العالم العربي.. منذ عقود.. قد خرّج ملايين الطلبة، ومنهم من صار طبيبا ومهندسا ووو..
ولكن، لنتذكر أن الطالب العربي يدخل الجامعة بناءً على معدله، وليس بناء على رغبته، أو ميوله، فيتخرج فقط لنيل وظيفة، لذلك، ونتيجة طبيعية لهذا النظام التعليمي التقليدي (وهو موجود أيضا في الجامعات) لا نشهد حالات إبداعية متميزة، لا في العلوم ولا في الطب ولا في أي حقل علمي، (ولا أقصد النجاح الوظيفي أو المهني الذي يدر دخلا مرتفعا)، فنحن لا نخترع شيئا حقيقيا، لا نكتشف جديدا، لا نفوز في المباريات الدولية، لا نحصد جوائز عليها القيمة، لا في الفن ولا في الرياضة ولا في السينما، الأدب العربي متخلف عشرات السنين عن الأدب العالمي، الإنتاج الثقافي العربي هامشي ولا يُذكر مقارنة بالإنتاج العالمي، المساهمة الحضارية العربية في الحضارة الإنسانية معدومة ومتوقفة منذ مئات السنين، حتى المواهب والقدرات الخاصة شبه معدومة.. ببساطة لأن العبقرية والمواهب والتميز تحتاج فضاء من الحرية.. ونظام التعليم العربي مخصص لخنق حرية الطالب وإخضاعه.
والخلل الآخر في هذا النظام التعليمي الجامد، هو أن المعلم يعتبر نفسه معلما وحسب، يفترض أنه الوحيد في الصف الذي يمتلك المعلومة والحكمة والتفسير.. وعليه أن يحشوها في عقول الطلبة، أي أن العلاقة بين المعلم والطلبة علاقة فوقية أبوية تسودها الهيمنة، ولا توجد فيها صداقات، على حد تعبير البرغوثي، بل علاقات سيطرة وقوة ونظام هرمي. الصداقة هي استعداد الأستاذ أن يصير مثل الطلبة وليس فوقهم، أن يرضى لهم ما يرضاه لنفسه، أن يصبح معلما ومتعلما في نفس الوقت، وهذا يتطلب تغيير أسس الحصة الدراسية، من نظام الإلقاء إلى نظام الحوار التفاعلي المتكافئ، حيث يسود الجو الديمقراطي، وحيث المساواة الحقيقية بين الجميع (الطلبة، المعلم، الإدارة، النظام) وحيث بوسع الطالب أن يفكر بحرية، وأن يسأل دون خوف، وأن يناقش ويطرح آراءه وتصوراته، وأن يختلف مع الكل، دون أن يترتب على ذلك شيء.. أي دون أن يخشى العقاب، أو الرسوب، أو حتى الامتحان..
ويوضح البرغوثي بأن الفكرة ليست أن نجعل من جميع الطلبة رياضيين وفنانين وشعراء واقتصاديين... فإذا اكتشفنا طالبا متأخرا في حقل ما، ولا يبدي تقدما في فهم موضوع معين، علينا ألّا نعتبره بليدا؛ بل أن نفتش عن ذكائه في حقول أخرى، وأن نكتشف موهبته الحقيقية، وميوله واهتماماته، وأن نتحسس طموحه ومشاعره، وبالتالي في هذه الحالة سنساعده أن يكون ناجحا ومتميزا بالمعنى الحقيقي والإبداعي، أو على الأقل أن نتركه وشأنه، ونعامله كصديق، بدلا من معاقبته وتحطيمه.
ويقدم البرغوثي نموذجا آخر على الفهم الخاطئ لمهنة التدريس، وهو المعلم الذي يعتقد أن لكل سؤال جواباً، وأنَّ لكل حوار نتيجة، وكل حيرة تنتاب العقل يجب أن نبددها بمعلومة يقينية، وأنّ هناك إجابة حاسمة، وحقيقة مطلقة، وقولا نهائيا، وتفسيراً واحداً منطقياً وصحيحاً... وهذا يؤدي إلى تنميط عقول الطلبة، وجعلهم نسخاً متساوية تنعدم فيها الفردانية والتميز والطموح، وبالتالي ينعدم الخيال والإبداع. وهذا الخطأ المنهجي موجود على صعيد المجتمع؛ حيث كل منا يعتقد أن موروثه الثقافي يمثل الحقيقة النهائية، والتي لا تجوز مناقشتها، وحين نخوض حواراً نخوضه بهدف إفحام الخصم، وإقناعه، وتغيير قناعاته، لا بهدف تبادل المعلومات والوصول إلى نقطة وسط، فإما منتصر أو مهزوم!!
ويطالب البرغوثي المعلمَ بأن يتعلم الرشاقة الذهنية؛ أي أن يتخلص من الجدية التي تبني بينه وبين الطلبة سدا، وأن يبدأ بالمرح، وممارسة ألعاب العقل والضحك، فالجدية تقود إلى فرض جو ثقيل وممل على الصف، وتقتل الاستمتاع، وتقتل القدرة على الارتجال والابتكار، وتخنق الفضول، وحب التعلم.. ودليل ذلك، حسب ما يقول البرغوثي، أن الطالب ينتظر لحظة الهروب من الحصة، بدلاً من رغبته بالقدوم إليها.. لأنه لا يستمتع بها، لأن المعرفة التي يتلقاها ميتة، جاهزة، ملقنة، روتينية.. ويقدم البرغوثي الحل؛ بأن يعطي المعلم كل ما هو حي وعضوي وطيب في روحه.. أن يبث الحياة في كلامه، وأن يكتشف كل مرة ما هو جديد ومختلف في المادة المقررة، وأن يسعى للوصول إلى قلوب الطلبة، وأن يلامس أرواحهم، وأن يعي بأن التعليم ليس ما يردده أو يكتبه على اللوح، بل هو حث الطلبة على الاندهاش، والفضول، والحركة، والسؤال، والوصول إلى أعماق عقولهم. ويختم: الإنسان الذي فقد القدرة على الاندهاش إنسان ميت، التعليم هو الحياة، والطالب الذي لا يستطيع أن يشعر بالحياة في معلمه، لن يتعلم منه إلا الموت.
في المقال القادم، سنناقش مفهوم التعليم التحرري عند "خليل السكاكيني" و"باولو فريري".