في زمن الرداءة، وكثرة المؤامرات، والمخططات، في زمن الدم والفوضى والهزائم الكبرى، وفي زمن الخوف من المستقبل تضيع بوصلة السياسة، ويتوه السياسيون حين تتلاعب بهم عواصم القوة الظالمة، ويصبح الضعيف يدور في اللامكان يراهن فقط على عاقبات الزمان وإرادة التاريخ.
الفلسطينيون الذين فقدوا الكثير الكثير من موارد قوتهم المستندة أصلاً إلى قوة قضيتهم، وشرعية حقوقهم ربما كانوا من ابرز الخاسرين في هذا الزمان بعد ان خسروا وحدتهم، وخسروا حاضنتهم العربية، التي تختلف على كل شيء بما في ذلك القضية الفلسطينية التي كانت حتى وقت قريب القضية الأولى وربما الوحيدة التي تجتمع عليها إرادة الأمة العربية.
هذه الخسارة ليست فقط بسبب ما يصيب العرب من كوارث، وصراعات وانقسامات، واتجاهات لتغليب القطري الخاص على القومي العام، بل إن للفلسطينيين نصيبا فيما أصاب ويصيب قضيتهم. موضوعياً تؤكد الأطراف الفلسطينية الفاعلة، حرصها على الحيادية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية والنأي بنفسها عن الدخول في الأحلاف الثابتة والمتبدلة، ولكنها موضوعياً تدخل في حقول اللعب السياسي على المتناقضات لتجد كل قوة منها أنها تتعامل مع ارتدادات هذه السياسة لتغرق أكثر فأكثر في وحل التناقضات الداخلية بما يعمق الانقسام وتعميق مظاهر الأزمات الوطنية.
لست ممن يدعون الجرأة غير محسوبة العواقب، الذين يعبرون عن انحيازهم لفتح أو حماس من خلال توجيه انتقادات حادة لحلفاء أو اصدقاء هذا الطرف أو ذاك. صحيح أن السياستين القطرية والتركية، وهما الأكثر قرباً ودعماً وتأييداً لحماس، صحيح أن هذه السياسات، تعبر عن تقارب فكري سياسي، وهو أمر غير محرم في علم السياسة، ولكن تقييم هذه السياسات ينبغي أن ينطلق من السياسة المتحققة على أرض الواقع.
فليختلف العرب ما شاؤوا مع بعضهم البعض، لكن الفلسطيني عليه أن يشكر لقطر وتركيا ما تقدمانه من دعم مادي ملموس، يلمسه المواطن الفلسطيني ويراه بأم عينه، بغض النظر عن الدوافع، فالأمر في النهاية مرهون بسلوك القوى الفلسطينية التي عليها أن تستفيد من هذا الدعم لصالح القضية الفلسطينية، فإن انساقت وراء دوافع الآخرين على حساب المصالح الوطنية فهي التي تتحمل المسؤولية.
إزاء موضوع المصالحة الفلسطينية تلقى الدعوة القطرية الجديدة لالتقاء طرفي الأزمة فتح وحماس في الدوحة، تلقى رواجاً إعلامياً واسعاً، بعض من باب الترحيب، والبعض الآخر من باب التشكيك والتحريض. ثلاثة لقاءات وقعت هذا العام في الدوحة، لم تثمر عن شيء حتى الآن، لكن اللقاء المرتقب يثير الكثير من التفاؤل ليس من قبل المواطن الفلسطيني وإنما من قبل طرفي الانقسام.
التفاؤل هذه المرة ليس كما خطابات التفاؤل الكثيرة السابقة، التي أنتجت الكثير من خيبات الأمل، وهو تفاؤل مستند إلى حسابات، فحركة حماس تثق في قطر، وتحرص على أن تنجح المساعي القطرية، لأنها الخيار الوحيد المطروح أمامها، أما حسابات حركة فتح فتذهب في اتجاه الرغبة في إنجاح المصالحة في قطر، لإحداث تحويلة هامة في رؤية الرباعية العربية.
الرباعية العربية تضع على رأس أولويات خارطة الطريق التي قدمتها، المصالحة في حركة فتح، تتبعها المصالحة بين حماس وحركة فتح، لكن فتح تصر على أن المصالحة مع حركة حماس هي المشكلة وبها ينبغي أن تبدأ خارطة الطريق.
قطر وهي المستثناة من الرباعية العربية، بسبب سوء علاقاتها بمصر، وربما بسبب قربها الشديد من حركة حماس التي تعاني علاقاتها من أزمة مع مصر، قطر تواصل البحث عن دور ينجح في تجاوز دور الرباعية العربية، وقد وجدت في تقرير فتح لأولوياتها المتعارضة مع الرباعية العربية الفرصة لأن تحقق مثل هذا الإنجاز. ينطوي التوجه الفتحاوي على قدر من المغامرة بالعلاقة مع ما تسميه سطوة الجغرافيا والمال الذي تمثله أطراف الرباعية الدولية، ذلك أن اللعب مع مصر والأردن، ومكايدتهما عبر اللجوء إلى قطر، أمر لا يمكن أن يمر من دون ثمن.
بالتأكيد لن يصدر عن الرباعية العربية أو أطرافها أية معارضة علنية، أو عداء مع أي اتفاق للمصالحة ترعاه قطر، فهذا أمر مستبعد، وإن حصل فإنه يشكل مساساً بمصداقية هذه الأطراف إزاء المصالح الفلسطينية وتشكيكاً في دوافعها.
قد يحصل هذا لكن أطراف الرباعية الدولية، وخصوصاً مصر، لن تتسامح مع الأطراف الفلسطينية ولا نرجح أنها ستتخلى عن الرؤية التي قدمتها. الغريب في الأمر أن تكون ثمة فرصة لنجاح المصالحة بين طرفين متعاكسين في السياسة، وأن يكون صعبا أو ما يقرب من المستحيل تحقيق الوحدة الفتحاوية برغم التطابق السياسي، ما يذهب بالمراقب للشك في أسباب ودوافع الانقسام الفتحاوي الداخلي.