نتنياهو ومفاجأة الحديث عن السلام في الأمم المتحدة

d0c97cf3cdd2c5c7fe3a1d0f8213f727_w800_h400_cp
حجم الخط

فوجئ الإسرائيليون قبل غيرهم من لجوء رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى لهجة تصالحية في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وبديهي أن المقصود ليس أن كل خطاب نتنياهو كان تصالحيا سواء تجاه الفلسطينيين أو العرب أو الأمم المتحدة أو أي جهة أخرى وإنما تجاه السلطة الفلسطينية جزئيا. فقد وجد نتنياهو نفسه يرد على الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمزيج من التهكم والأبوية حيث دعاه إلى إلقاء خطاب له أمام الكنيست ودعا نفسه لإلقاء خطاب أمام البرلمان الفلسطيني في رام الله.
ومن الواضح أن نتنياهو لا يقصد أي كلمة في لهجته التصالحية بقدر ما يقصد تمرير الجمعية العمومية من دون إشكالات. وربما أنه وخلافا للمنهج الذي أخذه هو وقادة اليمين في الكيان الإسرائيلي على أنفسهم بمواجهة العالم بما يعتبرونه «الحقيقة» من وجهة نظرهم فكر هذه المرة أن يساير. ففي كل الأحوال لا تضر كلمات لطيفة خالية من أي معنى إن أطلقت في الجمعية العمومية. ولا شك أن هذه العبارات تخدم في تمرير الفترة المتبقية من عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما والتي يتخوف نتنياهو منها كثيرا. ويشيع رجاله بأن أوباما قد يقدم على تسهيل تمرير قرار ضد المستعمرات في مجلس الأمن، وقد يصدر بيانا رئاسيا يحدد فيه صورة الحل كما يراها للأزمة في الشرق الأوسط. وليس مستبعدا أن يكون نتنياهو الذي دأب في السنوات السبع الماضية على إلقاء خطابات هجومية ورأى أن نتائجها لم تقرّب الكيان الإسرائيلي من رؤية العالم عمد إلى انتهاج سبيل أسلافه ممن عملوا دوما بطريقة «تحدث بصوت ناعم واضرب بعصى خشنة».
وأيا يكن الحال فإن جانبا من خشية نتنياهو من الرئيس أوباما يرتبط بالأمم المتحدة. ونتنياهو الذي صار يؤمن بأن الظهر الأميركي لن يكون متوفرا على الدوام يحاول أن يقيم علاقات مع دول يعتبر أن صوتها هام له في الأمم المتحدة. وهذه الدول ليست بالضرورة عظمى مثل روسيا والصين والهند ولكنها تملك أياد يمكن أن ترفع وتحسب أصواتا في الأمم المتحدة. ومعروف أن نتنياهو ووزير خارجيته سابقا ووزير الحرب حاليا أفيغدور ليبرمان كثّفا من علاقاتهما مع الدول الأفريقية وحققا في الآونة الأخيرة نجاحات في كسب بعض أصواتها أو تحييدها.
وفضلا عن ذلك أظهر نتنياهو منهجه الجديد المعتمد على فكرة أن الدول العربية ليست بطبيعتها معادية للكيان الإسرئيلي وأنها تكتشف بشكل متزايد أن ليست الدولة العبرية أساس مشكلات المنطقة وأن في الإقليم مواضع خطر أشد تجعل منها حليفا موثوقا لبعض الدول العربية. وفي إطار سعيه لتعزيز هذه الفكرة لا يتوانى نتنياهو عن مغازلة المبادرة العربية التي لا يرى منها أكثر من استعداد الدول العربية جميعها للاعتراف بالكيان الإسرائيلي وإقامة السلام معه.
على أن نتنياهو يعرف أكثر من سواه أن الواقع الميداني في الأراضي المحتلة يفرض نفسه. فالوهم باضمحلال الهبّة الشعبية التي بدأت قبل عام تحطم مؤخرا مع تصاعد العمليات الفدائية التي أظهرت أنه من دون تحقيق سلام مع الجمهور الفلسطيني لا يمكن لكيان العدو أن يشعر بالأمن. وقالت الهبّة أنه مهما بلغ الكيان الإسرائيلي من قوة فإن إرادة الفلسطيني البسيط غير قابلة للكسر رغم كل ما يحيط بالواقع العربي من ظروف سيئة تترك أثرها البليغ على معنويات وقوة الفلسطيني.
وفي كل حال، ورغم كل ما يتردد عن ضغوط دولية من أجل تحقيق تسوية ولو مفروضة يبدو أن الوضع يستمر في كونه واقعا في دائرة إدارة الأزمات. والسلطة الفلسطينية تحاول أن تكتشف لنفسها سبلا لتحريك القضية ولكن ما يعرض عليها في الوقت الراهن يعبّر عن ضعف عربي بليغ يصعب على الفلسطيني تقبله. وتبدو قوة الورقة الفلسطينية في كونها تجعل الإسرائيلي يعاني من استمرار وجودها. وهي ورقة لا تقبل أن تكون ورقة توت تغطي عورة بعض الأنظمة العربية الساعية لتكريس تعاون مع الكيان الإسرائيلي عبر مدخل فلسطيني.
وليس صدفة أنه اليوم، وفي ذروة تخلي نتنياهو وكبار الساسة في الكيان الإسرائيلي عن منطق التهويل والتخويف من الخطر الوجودي الذي يتهدد الدولة العبرية، يزداد إيمان الكثير من الإسرائيليين بأن الخطر الفعلي هو انعدام التسوية مع الفلسطينيين. ويجد الإسرائيليون أنفسهم مقيدين بواقع التطرف الاستعماري الذي لا يعيق السلام حاليا وحسب وإنما يعرقل كل فرصة للوصول إليه مستقبلا. فالاستيطان يخرّب فرص الكيان الإسرائيلي في تسويغ أفعاله الماضية لأنه يجعل هذه الأفعال حدثا مستمرا. ورغم أن نتنياهو تحدث مؤخرا عن «تطهير عرقي» يكمن في مطالبة الأسرة الدولية بتفكيك المستعمرات فإن استمرار حالة اللاجئين الفلسطينيين تخلق القناعة بأن آثار التطهير العرقي الإسرائيلي لم تمح بعد.
واليوم، أكثر من أي وقت مضى يجد الإسرائيليون نتائج سياساتهم المختلفة في الاراضي المحتلة. فالتمييز ضد الفلسطينيين في مناطق 48 يخلق حالة يصعب ضبطها من التفرقة داخل الكيان العبري الذي يدعي مشاركته الدول المتقدمة القيم الديموقراطية. والتمييز في القدس ضد العرب من سكانها يفجّر الموقف ويدفع حتى الإسرائيليين للتساؤل عن مغزى إعلان المدينة عاصمة موحدة. وطبعا الوضع في الضفة الغربية يتحدث عن نفسه وكذا في قطاع غزة حيث خرج الاحتلال وبقي مسيطرا على المنافذ والأجواء. في وضع كهذا، يتحدث نتنياهو عن السلام دون أن يقصد ولكنه يستعد لمواجهة.