ما يرغب الأهالي بأن يحفظه أولادهم، بجانب أن يتعلموا القراءة والكتابة في الروضة يقود إلى تعويد عقولهم على الحفظ، وإضعاف الجانب النقدي في طرق تفكيرهم، وبالتالي تهيئتهم للانخراط في النظام التعليمي التقليدي (البنكي) وتقبله هم وأهاليهم دون اعتراض.. وهو النظام التعليمي السائد حاليا في فلسطين.
في دراسة بعنوان "التعليم في فلسطين" استعرضت "حنان الرمحي" بعض مظاهر الخلل في النظام التعليمي القائم، منها مثلا: لا تستطيع الغالبية العظمى من الطلبة أن تعد ورقة بحثية، لأنهم معتادون على الحفظ، لدرجة أنهم لا يستطيعون التفكير ذاتيا، ولا توجد لديهم ثقة بالنفس، أو القدرة على التفكير بشكل نقدي، وبالتالي يصعب عليهم التقدم في الحياة أو المساهمة في المجتمع.
وأضافت إن التحدي الذي نواجهه هو أن المعلمين أنفسهم هم نتاج المجتمع الذي يحتاج إلى تغيير، وهذه معضلة لا نعرف إذا كان هناك حل لها.
يهدف التعليم إلى خلق مواطن صالح، فخور بوطنه وأمته ودينه، ومنتمٍ لبلده، ملتزم بالأخلاق الحميدة.. وهذا ما تريده الدولة والمؤسسة الدينية والقوى التقليدية، وحتى يتحقق ذلك، يطالب النظام التربوي المعلم والطلبة باتباع مجموعة من الأساليب المحددة سلفا، والتقيد بها حرفيا، مثل الامتحان، والتقييم من قبل المشرف، وإتمام المنهج وعدم الخروج عنه، والالتزام بالدوام.. وهذا ما يطلق عليه العنف الرمزي، الذي يعتبر أحد أشكال الضبط الشفافة، والذي يعمل على تجريد التلاميذ من مظاهر الثقة بالنفس، ويضعهم تحت عملية تبخيس ذاتية مستمرة ومتواصلة.
أو يهدف التعليم إلى تأهيل الطالب للمنافسة ودخول سوق العمل، وهذا يتطلب الخضوع لنظام التقييم والامتحانات، وحشو الدماغ بأكبر قدر من المعلومات، ما يجعل الطالب في حالة ذعر وقلق دائم، ما ينمي فيه نزعة الانضباط... أو يهدف التعليم إلى إنتاج إنسان حر، مرهف الحس، منسجم مع نفسه وواثق بها، متذوق للفن والجمال، متمرد على الواقع، ورافض للظلم، مؤمن بقدراته على إحداث التغيير، يسعى دوما لتحسين واقعه المحلي والعالمي... وهذه الأهداف الثلاثة لا تنسجم مع بعضها تماما، بل أحيانا تتعارض، لأن آليات تحقيقها متناقضة، فينمو الطالب في ظل حالة من التجاذب والتنازع فيما بينها، وعلى الأرجح، الأغلبية الساحقة من الطلبة، تتأثر بالهدف الأول، ما يعني أن النظام ينجح في إنتاج جيل مشابه للأجيال السابقة، يحمل ذات الأفكار والقيم، بل ويحارب أية نزعة للتجديد والتحديث.
ومقابل هذا النمط التعليمي الجامد والمتخلف، يأتي التعليم التحرري؛ الذي يسعى لتحرير العقل من القيم السلبية، وفكفكة الموروث السائد بالتفكير النقدي، ومن خلال الحوار والتشارك واحترام إنسانية الطلبة، واحترام عقولهم، وبالتالي بناء قدراتهم القيادية، وتعزيز روح التسامح واحترام وجهات النظر المختلفة.
والتعليم التحرري لا يقتصر على المدرسة، بل يتشارك فيه المجتمع بأسره.
ومع أنه لا توجد دولة في العالم تبنت التعليم التحرري بصورة شاملة، إلا أن هناك نماذج عديدة عالمية أحرزت نتائج رائعة، وأحدثت نقلة نوعية على صعيد التعليم.
في فلسطين لدينا أيضا نماذج ريادية ملهمة، حققت نجاحات جيدة، يمكن البناء عليها وتطويرها، منها مثلا مؤسسة تامر، مركز إبداع المعلم، أفكار للتربية والتنمية الثقافية، مؤسسة فلسطينيات، مسرح عشتار، وعلى صعيد المبادرات الفردية لدينا منير فاشة، وزياد خداش، وحنان الحروب وغيرهم..
في ورشة عمل نظمتها مؤسسة "روزا لوكسمبورغ" برام الله، قدمت "رلى شومر"، مديرة مدرسة "مسار" في الناصرة و"إبراهيم أبو الهيجا" أحد مؤسسي المدرسة عرضا موجزا عن تجربتهم المميزة والفريدة في التعليم التحرري، وعن كيفية تغلبهم على العراقيل البيروقراطية، وتدخل وزارة المعارف، وكيفية تعاملهم مع مخاوف الأهالي.. حيث قالا: "هدفنا أن يكون الطالب سعيداً في المدرسة، ودليل نجاحنا أن الطلبة يرغبون البقاء في المدرسة بعد الدوام، ونسبة التسرّب معدومة، ولا يوجد عنف في المدرسة، ونخلق حياة أسرية طبيعية، وجميع الطلبة تفوقوا في الجامعات التي ذهبوا إليها. عدد الطلاب في الصف 25 فقط، ولدينا معلمتان لكل صف، البرنامج مرن ومتغيّر، ونتيح للطالب مساحات للتعلّم دون معلّم، ومن الممكن أن نلغي الحصة ونناقش مشكلة معينة وكيفية حلّها. نعلّم العربية والإنكليزية من الصف الأول والثاني من خلال الأغاني، ونبدأ بالنصوص لا بالأحرف، ونركّز على المهارات الاجتماعية، ونقوم بتحضير الطعام مع الأولاد، ونزرع معهم، ونربّي الحيوانات. لا نستعمل كلمة تدريب وفق سياسة "أنا أعرف والطالب لا يعرف"، بل نساعده على أن يبني نفسيته، ويحررها من القيود، ويصبح مستعداً وراغباً في التغيير. أدخلنا كل المواضيع الإبداعية، المعدومة من المدارس الأخرى: فنون، دراما، رقص، موسيقى، ألعاب، رياضة، مسرح.. وخصصنا لها ساعات طويلة، والطالب يختار ما يريد لتعزيز دوره في عمليّة التعلّم. ألغينا كتب المنهاج، ولم نستعمل كتب الوزارة إلى حين مرحلة التوجيهي. وأعطينا مساحة أكبر للأستاذ ليقرر بنفسه، وفقا لاجتهاداته.
في اللغة العربية، أدخلنا نصوصا جميلة، فالطلاب في الصف الخامس مثلا يناقشون رسائل إخوان الصفا. ندرس العلوم الطبيعية، من الصف الثالث فما فوق، عن طريق التجارب، ومن مفردات الحياة حولنا، بالمنهج العلمي المبني على أساس المراقبة والشك والبحث، مع التأكيد على أنه لا حقيقة مطلقة حتى في العلوم.
وقبل "مسار" بسنوات طويلة، لدينا "المدرسة الدستورية" التي أنشأها "خليل السكاكيني" في بدايات القرن العشرين، والتي اعتبرت نقلة ثورية بالنسبة لذلك العصر، وبل وحتى الآن، حيث ألغى العقوبة البدنية، واعتبرها أسلوبا همجيا يعود للقرون الوسطى، واستبدل الامتحانات بالتقييم الذاتي، الذي يقوم به الطلبة والمعلمون معا. وطلب من المعلمين ألا يسجلوا أسماء الطلبة المتغيبين، وكان للطلبة الحرية في مغادرة المدرسة إن هم شعروا بالملل.. وكانت النتيجة أن المعلمين صاروا مجددين وممتعين، حتى يحوزوا على اهتمام الطلبة.. وصار الطلبة يكتبون بلغة جديدة تتميز برشاقتها ودقتها وحداثتها. (سليم تماري، "الجبل ضد البحر"، ص 146).
ثمة حكمة تقول: "يولد الناس جهلاء، والتعليم أحيانا يحولهم إلى أغبياء".
حتى نكف عن إنتاج أجيال منسوخة عن بعضها، وحتى نستطيع أن نضع أقدامنا على سكة التغيير والتطور، نحتاج لثورة على النظم التعليمية السائدة، نحتاج إلى إدراج الفنون والرياضة والموسيقى والرسم والمسرح والمختبر والمكتبة في صلب العملية التعليمية، لأنها وحدها القادرة على البدء بالتغيير، ولأنها تمثل الثورة الحقيقية.
ما لم نفعل ذلك سنظل نجني الهزائم والخيبات.