ثلاثون من أفضل المتخصصين بين مواطني المنطقة العربية ، اجتمعوا على امتداد يومين لمناقشة مسألة التعددية والتنوع في بلادهم ، واقتراح توصيات تكفل أمن كافة المواطنين على اختلاف هوياتهم العرقية والدينية والمذهبية. جاء الثلاثون من مجتمعات بعضها تمزّقه حروب أو فتن أهلية وبعض آخر يئن تحت أعمال قمع وتعذيب وحرمان من ممارسة حقوق الإنسان بحجة المحافظة على وحدة الدولة. القليل بين المجتمعين جاءوا من بلاد الهجرة مزودين بتجارب متباينة لإدارة التنوع ومدفوعين بطاقة وفيرة من الحنين والعطف.
أثار انتباهي أن أغلبية الحاضرين في القاعة المغلقة مثل كثيرين في شتى الجامعات ومراكز الفكر ومئات الأفراد الذين يسيطرون على مصادر الثروة والسلطة في العواصم العربية، أغلبية هؤلاء غير مكترثين بحقيقة أنه في مثل هذه الأيام قبل مئة عام وقعت أحداث انتهت بأن يقوم أجانب برسم حدود سياسية في المنطقة العربية ، ليعيش على جنباتها بشر متنوعو الهوية لم يستشرهم أحد. استند الأجانب فيما يبدو إلى خبرات وتجارب موظفي إدارات الاستعمار في بلاد الغرب ، ولعلهم بحثوا مع عائلات كبيرة في الجزيرة العربية فكرة إقامة خلافة إسلامية جديدة تكون هذه المرة عربية وإن بصناعة غربية. لم تفلح الفكرة واستقر الرأي على خريطة تقسيم تسرّب بسببها إلى الإقليم مشروع الدولة القومية ثم إيديولوجية القومية العربية.
استطاع موظفو الاستعمار إدارة مسألة التنوّع بكفاءة نسبية باستخدام تراث الإمبراطورية العثمانية ، بالإضافة إلى تراثهم التقليدي الغربي واستفادوا من عدم وجود منافس دولي قوي أو تهديد داخلي شديد. اعتمدوا خلال مرحلة الحكم الاستعماري المباشر على قوة القمع ودهاء سياسات فرّق تسد. منحوا الأهالي الاستقلال عندما اتضح لقادة دولهم أن قيادة الغرب انتقلت خلال الحرب للولايات المتحدة، وأن حقوقاً كثيرة في الشرق الأوسط والتزامات أكبر سوف تذهب إليها. استعدّوا للانسحاب وقبل إتمامه أنشأوا أو ساهموا في إنشاء جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية لترسخ مفهومين في وقت واحد ، أولهما الهوية القُطرية داخل حدود الكيان الواحد ، والثاني العروبة كهوية عابرة للحدود. لم يكن الانسحاب سهلاً ولا كان انتقال الهيمنة من دون كلفة عالية. اشتد ساعد الشعور الوطني القُطري من جانب ، وصارت العروبة إيديولوجية مقاومة لمحاولات القوى الغربية تمكين الهيمنة في صور جديدة وإخضاع الإقليم للولايات المتحدة في شكل أحلاف وانقلابات عسكرية ، وتدخل سافر في الشؤون الداخلية لدول لم تستكمل مسوغات استقلالها وإن مستمتعة برموز سيادة شكلية. استمرت الهوية القُطرية تتدعم وكذلك الهوية القومية في تلازم غريب وتحالف مثير ، يتجاهل وجود الهويات الأخرى «النائمة» في أماكن والمتحفزة في أماكن أخرى.
في الشرق العربي كما في أمريكا الجنوبية ، انتهزت الطبقات الحاكمة وقادتها سواء كانوا من الوطنيين التقدميين أم كانوا من التقليديين والدينيين فرصة الحاجة الأمريكية، والغربية عموماً، إلى فرض الهيمنة واستغلال الثروات المحلية، انتهزوا هذه الحاجة لإبقاء الهويات الأولية أو غير الغالبة تحت السيطرة.
كانت الذريعة دائماً أن الخطر الإمبريالي محدق ويهدد عملية بناء الدولة. كذلك كان الخطر الشيوعي القادم من الخارج في شكل مؤامرات يدبرها أو ينشطها الاتحاد السوفييتي في إطار حرب باردة مشروعة بين الدولتين الأعظم. عشنا كدول شبه مستقلة عقوداً لم يسمع فيها الرأي العام العالمي عن الأحوال المتردّية التي كان يعيش فيها السكان الأصليون في أمريكا الجنوبية، وعن أحوال مماثلة يعيش فيها مواطنون في أقصى جنوبي العراق وأقصى شماله وآخرون في دول عربية أخرى. وكنا إذا سألنا قيل لنا إنها مسؤولية أمريكا والغرب أو مسؤولية الشيوعيين والمخرّبين أو مسؤولية الصهيونية و«إسرائيل» وعملائهما.
الخارج بالفعل مسؤول إلى حد كبير. الغرب تحديداً مسؤول أكثر من غيره من قوى الخارج ، لأنه لم يرفع يده الثقيلة عن هذه المنطقة منذ بدأ مسيرة الاستعمار ، واكتشف وجودنا على الطرق المؤدية إلى الشرق الأبعد.
لم نشارك في صنع الاتفاقات والمواثيق التي غيّرت وجه ومسيرة وأسلوب حياة الملايين من أهالي الشرق الأوسط منذ قرب نهاية الحرب العالمية الأولى. صاغ لنا آخرون، أو ساعدونا في صياغة، معظم دساتيرنا وقوانين بلادنا. اختاروا لنا، أو أشرفوا على اختياراتنا من مناهج التعليم وأنواعه، درّبوا كل جيوشنا وصنعوا كل أسلحتنا. قاوم منا من قاوم ونجح بعضنا في تحقيق درجة أو أخرى من استقلال الإرادة بثمن كان في معظم الحالات باهظاً. ساوم البعض منا ولم يحصل من قوى الخارج ،وبخاصة قوى الغرب ، إلا على القليل لضعفنا وانقساماتنا وإصرار معظم الحكام العرب على التمسك بذهنية الاعتماد على الغرب.
آن لهذه العلاقة أن تتغير ، خاصة بعد أن تغيرت الأسس التي قامت عليها. تغيرت الأسس في الثلاثين عاماً الأخيرة ، كما لم تتغير أسس في نفس المدة في عصور سابقة. الغرب لم يعد الغرب الذي عرفناه وسلمناه أقدارنا وثرواتنا ودفاعاتنا. اختلت مختلف حسابات القوة الدولية. انحدرت دول عظمى وصعدت دول كبرى.
رغم قتامة الصورة، أو ربما بسببها، تتجدد الدعوة الموجّهة إلى مجلس جامعة الدول العربية على أي مستوى يختاره القادة العرب ليجتمع في انعقاد متواصل حتى يتوصّل إلى رؤية موحدة لخريطة جديدة للشرق العربي. يستعين بخبراء مستقلين، أي يتمتعون بصلاحية إبداء الرأي الحر ، وخبراء أجانب أيضا مستقلين وغير خاضعين لالتزامات تفرضها علاقة بأجهزة استخباراتية. تبدأ المرحلة التالية بدعوة مؤتمر قمة إقليمي ، يضم إلى جانب القادة العرب قادة دول الجوار الجغرافي وخبراءهم وقادة مختارين من دول الغرب والدول الصاعدة ، يعتمد خريطة النظام العربي ويرسم حدوداً جديدة لنظام شرق أوسطي قاعدته النظام العربي.
لا يوجد عندي أدنى شك في أن خريطة جديدة للشرق الأوسط سوف تظهر عند نهاية نفق الحروب الدائرة في سوريا والعراق واليمن وليبيا وسيناء مصر، خريطة بحدود تختلف مساراتها وتعرجاتها عن الحدود الراهنة وبتوزيع للشعوب «على الهوية» يختلف عن التوزيع الذي انعكس في لوحة الفسيفساء التي نشأنا عليها. كذلك لا أشك للحظة واحدة في أن المتفاوضين في الغرب على مستقبل مشكلة المهاجرين إلى الغرب أو على وقف الحروب في الشرق الأوسط أو زيادة إشعالها ، ناقشوا أكثر من مرة ضرورة فصل جماعة سكانية عن أخرى وتغيير مسيرة خط حدود وضم أراض وعزل أخرى. هناك في الغرب وربما في روسيا كذلك يفكرون بالنيابة عنا في تفاصيل خريطة أو أخرى، بينما نحن ، أهل المنطقة وقادتها ومفكريها ، لا نفعل شيئاً، سوى انتظار خريطة جديدة يرسمها أجانب لتحل محل خريطة رسموها قبل مئة عام.
عن الخليج الاماراتية