الكونغرس: فائض القوة وغرور السياسة

thumbgen (49)
حجم الخط
 

كيف ينبغي أن نفهم، أو نفسر إصرار الكونغرس الأميركي على إصدار قرار أطلق عليه اسم «قانون العدالة ضد الدول الراعية للإرهاب»، أو كما بات يعرف بـ «جاستا» (Jasta)؟ لن أتوقف هنا عند ما كثر الحديث عنه حول تصادم هذا القانون الأميركي المحلي مع القانون الدولي، والتداعيات الخطيرة التي ينذر بها ذلك على الولايات المتحدة قبل غيرها. ما سأتوقف عنده هو الدلالة السياسية التي ينطوي عليها هذا القانون، انطلاقاً من أن «جاستا» في حقيقته هو جملة سياسية بلغة قانونية، وليس جملة معنية قبل أي شيء آخر بالحقوق القانونية لعائلات ضحايا أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) كما ينص على ذلك. وأنا أنطلق في هذا الافتراض من أربعة أمور: التسرع ثم المراجعة، أن عائلات ضحايا أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) لن يستفيدوا كثيراً من جاستا في نهاية المطاف، موقف البيت الأبيض الضعيف أمام القانون، وأخيراً أن هذا القانون موجه في الأساس للسعودية وهي شريك للولايات المتحدة.

لنبدأ بالأمر الأول. فبعد أقل من أربع وعشرين ساعة على رفض الكونغرس بغرفتيه لاعتراض الرئيس باراك أوباما على جاستا، بدأت قيادات الحزب الجمهوري، وهي تمثل الغالبية في السلطة التشريعية حالياً، تبدي مخاوفها من احتمال أنها تسرعت في إصدار القانون بصيغته الحالية، ومن ثم من التداعيات الخطيرة لذلك على الديبلوماسيين والعسكريين، ورجال الاستخبارات الأميركيين في الدول الأخرى. انطلاقاً من ذلك ترى هذه القيادات الآن ضرورة مراجعة القانون لإدخال تعديلات عليه لتلافي تلك التداعيات. والغريب في موقف قيادات الجمهوريين هذا أن العمل على القانون بدأ في عام 2009، أي قبل سبع سنوات من الآن، ولم يكتشفوا تسرعهم إلا بعد تمرير القانون بأقل من أربع وعشرين ساعة. ألم تكن مدة سبع سنوات كافية لاكتشاف خطل وخطورة مثل هذا القانون بالنسبة الى مؤسسة عريقة في عملها التشريعي الذي يمتد لحوالى ثلاثة قرون؟! صحيفة «نيويورك تايمز» وصفت موقف قيادات الجمهوريين في افتتاحيتها أمس السبت بأنه تعبير عن المدى الذي وصل إليه الكونغرس في عدم كفاءة عمله التشريعي. لكن قد تكمن إشكالية الكونغرس هنا في مكان آخر، في انتهازية سياسية رخيصة في موسم انتخابي غير مسبوق في غرائبيته. فالجمهوريون بدأوا يكتشفون الآن بأن مرشحهم في السباق الرئاسي، دونالد ترامب، قد لا يخسر السباق وحسب، بل قد يتسبب بخسارة كبيرة للحزب في الكونغرس، وفي انتخاب حكام الولايات. وبالتالي بدا المخرج لهم بتمرير جاستا في حمأة هذا الموسم، كيفما كان، كمناورة شعبوية للحد من خسائرهم المتوقعة، من دون التوقف ملياً أمام التداعيات القانونية والسياسية لذلك دولياً على المدى البعيد. لكن تراجعهم يكشف عن حقيقة معرفتهم بخطل القانون وخطورة تداعياته. وهم بهذا التراجع أرادوا على الأرجح كسب الاثنين معاً: الصوت الشعبي، وفتح الباب بعد ذلك أمام تغيير القانون لتلافي تلك التداعيات بما قد لا يفيد أسر ضحايا أحداث أيلول.

هل هذا ممكن؟ مرة أخرى، ترى الـ «نيويورك تايمز» في الإفتتاحية ذاتها بأن المخرج الوحيد يتمثل في إسقاط القانون جملة وتفصيلاً.

في السياق ذاته، وهذا هو الأمر الثاني، يرى أثنان من أساتذة القانون الأميركيين أن جاستا مر في الحقيقة بصيغتين، أولى وثانية. وأن الصيغة الثانية التي صادق عليها الكونغرس لن تستفيد منها أسر ضحايا أحداث أيلول، لكنها في الوقت نفسه ستتسبب بتداعيات خطيرة لا مبرر لها في هذه الحالة. هذا ما قاله جاك غولدسميث، أستاذ القانون في جامعة هارفارد، وستيفن فلاديك، أستاذ القانون في جامعة تكساس في مقالة لهما على موقع CNN، بتاريخ 13 أيلول 2016.

http://edition.cnn.com/2016/09/13/opinions/obama-9-11-families-bill-goldsmith-vladeck/

وإذا ما حصل تعديل ثالث، وهو الأرجح وفق تصريحات قيادات الحزب الجمهوري، فإن الأمر قد ينتهي بجاستا إلى مجرد ورقة لا يستفيد منها أحد، وتتسبب بخسائر مالية للمدعين والمدعى عليهم.

الأمر الثالث أن موقف الرئيس باراك أوباما باعتراضه على جاستا يبدو ضعيفاً. فإدارته لم تبادر مبكراً، وفي شكل جاد ونشط لإيصال حجم اعتراضها على القانون انطلاقاً من قناعتها بما ينطوي عليه من أخطار، وذلك لكسب أكبر عدد ممكن من أعضاء الكونغرس، بخاصة الديموقراطيين منهم، لتأييد اعتراض الرئيس، وإبطال إمكان رفض هذا الإعتراض. على العكس من ذلك جاء اعتراض الرئيس متأخراً، وبصيغة مختصرة. وأكثر ما يلفت النظر في نص اعتراض أوباما أنه لم يأتِ على ذكر السعودية، وحقيقة موقفها من الإرهاب، وأنه يستهدفها ربما بدرجة أكبر من غيرها، وتحالفها مع الولايات المتحدة في محاربة هذه الظاهرة. فالإدارة باعتبارها السلطة التنفيذية، وبجميع هيئاتها تعرف عن ذلك الشيء الكثير، وأكثر من أية جهة أخرى داخل الولايات المتحدة.

وعندما تجمع موقف الكونغرس المتسرع إلى موقف الإدارة الضعيف يبدو بأن السعودية قد تكون هي المستهدف الأول من جاستا. بعبارة أخرى، جاستا وما انتهى إليه حتى الآن، وما قد ينتهي إليه لاحقاً هو آلية قانونية في ظاهرها للضغط على السعودية، وإبتزازها سياسياً. لماذا؟ إدارة أوباما ممتعضة من أن تركيز السعودية على الحرب في اليمن يأتي على حساب جهودها في محاربة «داعش» كما يتردد كثراً هذه الأيام. كأن أوباما وإدارته لا يريدان تقدير خطورة ما قام ويقوم به الحوثيون على الحدود الجنوبية للسعودية. لا يرى أوباما في المنطقة إلا خطر «داعش»، ويرفض كما يبدو أن هذا التنظيم الإرهابي هو نتيجة، وليس سبباً في إنفجار الصراع الطائفي في المنطقة، وأن إيران هي المتسبب الأول، والمستفيد الأول من هذا الإنفجار. الأكثر من ذلك أن أوباما يطالب السعودية باقتسام النفوذ في المنطقة مع إيران بدلاً من الصدام معها. وهذا موقف غريب وشاذ. فإيران هي من بدأ الصدام وتصر عليه من خلال تدخلاتها وميليشياتها التي يمتد وجودها من العراق إلى لبنان مروراً بسورية. بل إن إدارة أوباما تغض الطرف تماماً عن الميليشيات الإيرانية في العراق وسورية. بل تتحالف معها عملياً في الحرب على داعش في العراق. ثانياً أن الشراكة لا تقوم في الأصل إلا بين دول تحترم سيادة ومصالح بعضها، وليس بين دولة تتبنى آلية الميليشيات ونشرها في المنطقة، وهي إيران، وأخرى تحارب هذه الميليشيات، وهي السعودية. وفي هذا تختلف السعودية مع إدارة أوباما. وهو اختلاف مستجد كما يبدو في العلاقات السعودية - الأميركية، وبالتالي لا يروق كثيراً للإدارة والكونغرس.

هذا لا يعني طبعاً أنه لم تكن للسعودية مساهمة في هذا الخلل. فمن مؤشرات ذلك أن علاقة السعودية مع الولايات المتحدة تكاد تقتصر على السلطة التنفيذية، ولا تمتد في أهميتها إلى الكونغرس كسلطة تشريعية. وهذا يحرم السعودية من إيصال صوتها ومشروعية مصالحها إلى نطاق أوسع من الإدارة. المؤشر الآخر أنها علاقة بين السلطتين الرسميتين في كل منهما بمعزل عن كل ما هو شعبي وغير سياسي. ربما أن هذا كان مفيداً في الماضي. لكن التحولات التي حصلت في العقود الأخيرة وما تمخضت عنه من تغيرات إقليمياً ودولياً تتطلب إعادة النظر في طبيعة العلاقة. وأهم ما تتطلبه هذه التحولات أن تعيد السعودية النظر في طبيعة التحالف مع الولايات المتحدة، وليس بالتحالف ذاته. أي أن على السعودية أن يكون موقفها الحالي بداية لأن تكون حليفاً قوياً على أكثر من مستوى بما يجعل التحالف مفيداً للطرفين، وليس لطرف أكثر من الآخر. وإذا كان إصرار الكونغرس على إصدار جاستا تعبير عن شعور بفائض القوة وغرور السياسة، فإن الأمر يقتضي التوقف أمام ذلك ملياً والإستفادة مما ينطوي عليه في شأن هذه العلاقة القديمة والمهمة.

عن الحياة اللندنية