الموصل... المعركة الأشرس

عبد الغني سلامة
حجم الخط

بعد نجاحها في تكريت والفلوجة والأنبار، تستعد حكومة حيدر العبادي لمعركة استعادة الموصل، وتحريرها من قبضة داعش، وعلى ما يبدو أن التحضيرات قد اكتملت تقريبا، خاصة بعد تطهير «القيارة» وهي بلدة تشكل مدخلا حيويا مهما للعبور إلى الموصل، وبعد تلقيها وعودات بمساعدات أميركية (فنية وعسكرية)، ودعما دوليا في هذه المعركة الحاسمة، التي من المتوقع أن تكون الأشرس والأشد فتكا، لجملة من الأسباب؛ أهمها أن الموصل، هي عاصمة «الدولة الإسلامية» التي اتخذها «الخليفة» البغدادي مقرا لحكمه (حزيران 2014)، وهي عقر داره، ومعقله الأهم سياسيا وعسكريا وإستراتيجيا.. وبالتالي سيستميت التنظيم بالدفاع عنها.
بالنظر للجهات التي ستخوض معركة الموصل، يمكن توقع مدى شراستها ودمويتها؛ الجيش العراقي النظامي، وهو غير الجيش الذي عرفناه لعقود طويلة، والذي حلّه «بريمر» بجرة قلم في 2003، ثم أنشأ الأمريكان بدلا منه جيشا جديدا، لم يكتسب الخبرة العسكرية التي كان يتمتع بها سابقه، ولا الانضباط العسكري المعهود عنه، فضلا عن شبهات الفساد التي تحوم حول عدد من قياداته.. كما أن الصبغة الطائفية طاغية على تشكيلاته وكبار ضباطه وخطابه التعبوي.. الجهة الثانية التي ستشارك إلى جانب الجيش هي «الحشد الشعبي»، وهي تشكيلات ميليشوية ذات صبغة طائفية، متهمة بممارسات وحشية، ونُسبت إليها أعمال تنكيل وانتقام.. الجهة الثالثة «قوات البشمركة»، وهي تشكيلات نظامية بموجب الدستور، لكنها مقتصرة على الأكراد، واقترنت تاريخيا بتكتيكات حرب العصابات، وفي حال مشاركتها لا توجد ضمانات بعدم تورطها بأطماع وممارسات ذات بعد قومي عرقي، سيما وأن ولاءها لحكومة أربيل.. هذه الأطراف متفقة حاليا على طرد داعش، لكنها ستختلف بعد ذلك على كل شيء.
 في الجهة المقابلة، قوات داعش، وهي غنية عن التعريف بمدى قسوتها وإفراطها في العنف وأعمال الانتقام، خاصة وأنها ستكون في موقع الدفاع عن مكتسبات تعتقد جازمة بأنها هبة ربانية، وبالتالي ستخوض القتال باعتباره جهادا في سبيل الله، وبخطاب تعبوي يعطيها رخصة السلب والنهب والقتل والحرق وأخذ السبايا والغنائم.
الموصل، وهي ثاني أكبر مدينة عراقية بعد بغداد، كان يقطنها مليونا مواطن، عربا وأكراد وتركمان وكلدان، مسيحيين ومسلمين ويزيديين، سنة وشيعة.. تعايشوا معا لمئات السنين، قبل أن تأتي داعش وتطرد منها المسيحيين واليزيديين، ثم بعد ذلك يهاجر منها كل من تمكن من الهرب.. لكنها تختلف عن المدن الأخرى التي سيطر عليها داعش، فقد أبقى التنظيم معظم سكان الموصل داخلها، بل وفرض «نظام كفالة» يلزم كل من يغادر المدينة بتحديد ثلاثة رهائن من أقاربه يقع عليهم العقاب ما لم يعد إلى المدينة. هؤلاء السكان المدنيون هم الذين سيدفعون أثمان هذه المعركة، بغض النظر عن نتيجتها.
حسب التقديرات، أغلبية سكان الموصل حاليا من العرب السُنّة، وهم موضع اتهام من قبل كثير من العراقيين بأنهم فرحوا لسقوط مدينتهم، وتخلُّصِهم من سيطرة النظام، وأنهم رحبوا بداعش، وتعاونوا معها.. وهذا بحد ذاته سيكون دافعا للإنتقام منهم. السكان بدورهم يتهمون الجيش والحكومة بالفساد، وأنهم عانوا من حكمهم الكثير، وبالتالي لديهم تخوفات من عودة سيطرة الحكومة العراقية على المحافظة، ما يعني أن موقفهم من المعركة ليس واضحا ولا محسوما، بل ربما يكون مناوئا للجيش.. خاصة وأن سنتين من حكم داعش ليست بالبسيطة في أثرها على التركيبة السكانية للمدينة، وولاءات الناس وأنماط حياتهم وطرائق تفكيرهم.
المعركة لن تكون سهلة، حتى لو تفوق الجيش العراقي وحلفائه بالعدد ونوعية الأسلحة، لأنها ستكون أشبه بحرب العصابات، وسيتخذ تنظيم داعش من سكان المدينة رهائن ومتاريس ودروعا بشرية، يحتمي بهم، الأمر الذي سيعطل أهم عناصر القوة العراقية، وهي سلاح الجو.. وحتى لو حُسمت المعركة لصالح الجيش (وهو أمر شبه مؤكد) إلا أن ثمن هذا النصر سيكون خسائر مدنية فادحة، لكنه سيشكل نقطة تحول في الخارطة الجيوسياسية للعراق، كما كان سقوط المدينة قبل سنتين بداية تغيير جديد في المنطقة.
بعد هزيمة داعش في الموصل، ليس من المتوقع نهاية التنظيم، والقضاء عليه كليا، رغم أنها ستكون ضربة موجعة جدا، بل من المرجح – كما حصل مع طالبان- أن يتفكك التنظيم إلى خلايا ومجموعات مسلحة يمكن أن تختفي داخل المدينة (خلايا نائمة)، أو في البوادي، وفي بقية المواقع التي ستظل تحت سيطرة مجموعات من داعش.. وستضرب على شكل عمليات إرهابية تستهدف مدنيين، كما تفعل حاليا في بغداد..
الأكراد الذين سيشاركون بقوة في هذه المعركة، سيطالبون بثمن سياسي لمشاركتهم يتمثل في حصة في الحكم، وهو الأمر الذي لن يقبل به السكان العرب بسهولة، خاصة مع مخاوف التقسيم، وفي ظل الصراعات والأطماع والحسابات التي تدفع دول الإقليم للتدخل بكل قوة (إيران، تركيا، السعودية، إسرائيل)، وهذه الأطراف لها مصالح متضاربة، تشكل الموصل نقطة مركزية لها في هذه المعادلة المعقدة.
التحدي الآخر، والذي لا يقل خطورة، هو حالة الفوضى التي ستعم المدينة، فقد تمارَس أعمال انتقام طائفية، وتصفيات واغتيالات، بين الأطراف المتنازعة، سكان المدينة الأصليون ممن هُجروا أو فروا، خاصة المسيحيين واليزيديين، هؤلاء سيعودون لبيوتهم، لكن بيوتهم استولى عليها داعش ووزعها على أتباعه، وليس من المتوقع أن يتم إعادة هذه البيوت لأصحابها بسهولة.. وهذا ينطبق على المحلات والعقارات والمزارع.. والأهم من ذلك، هؤلاء نُكِّل بهم، سُبيت نساءهم، وأهينوا.. والذين أهانوهم وسلبوهم ممتلكاتهم أغلبهم من العشائر المجاورة.. وهذا ربما يكون دافعا للإنتقام..
هذه السيناريوهات المرعبة، والتي نرجو ألا تحدث أبدا، للأسف سبق أن شهدنا نماذج مصغرة عنها، في تكريت والفلوجة، وحتى في بغداد.. حلقة العنف التي افتتحها «بوش» في العراق، بدأت، وكبرت، وهي مرشحة لموجة جديدة دموية، خاصة وأن النزعة الطائفية تسيطر على عقول وقلوب الكثير من الناس، من شتى الطوائف، والتاريخ يخبرنا أن الإقتتال الطائفي هو الأشد ضراوة.
تحرير الموصل مطلب قومي وإنساني ملّح.. ولكن الأهم منه هو إفشال مخططات التقسيم، وتجنب العنف وأعمال الانتقام.. فهل تعود أجواء التعايش والتسامح لأم الربيعين.. هذا ما نأمله..