مثل الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين، عارضتُ مشاركة الرئيس أبو مازن في جنازة بيريس، وتمنيتُ من قلبي أن يصرّح بغضب: لن أشارك في جنازة قاتل، ولن أصافح نتنياهو، طالما أن الاحتلال جاثم فوق أرضنا... ولكن، طبعا حسابات السرايا غير حسابات القرايا.. وحصل عكس ما تمنيناه..
في البداية كتبتُ على صفحتي عبارات نقد لاذعة بحق الإعلامي الفتحاوي «يحيى رباح»، لأنه تناسى مجزرة قانا، ووصف بيريس برجل السلام.. وكنتُ أهمُّ بكتابة نقد ومعارضة لمشاركة الرئيس في الجنازة، لكني امتنعتُ عن ذلك بعد موجة الردح غير المسبوقة، وخروج حملة المعارضة عن أهدافها المشروعة، وتحولها إلى حملة تحريض على الكراهية، وبأسلوب شعبوي، استُخدمت فيه تقنيات الخداع والتضليل والمبالغة لدرجة أفقدتها مصداقيتها.
ليست هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها عبّاس لحملات تحريض منظّمة وكبيرة، حتى أني لا أعرف رئيسا تعرض لهذا الكم من حملات التشويه والإدانة.. أغلبها نُفذت برعاية قناة الجزيرة، وجهات أخرى (الإخوان المسلمين، حماس، دحلان..) طبعا، هذه الحملات لم تنطلق من الفراغ؛ بل كانت مبنية على ممارسات ومواقف لعباس، أو تصريحات أدلى بها، اعتبرتها تلك الجهات أخطاء وجرائم؛ فاستندت إليها في حملاتها، وجعلت منها مادة للنيل من سمعته ومكانته.. وفي بعض الأحيان كان يتم تحريف أقواله، أو تفسير مواقفه بشكل مخالف لما كان يقصده، أو جرى تصيّد لأخطائه ثم المبالغة والتهويل في تصويرها.. بمعنى أن الحملات لم تكن موضوعية، ولا بنوايا بريئة، وإن كان عباس العنوان العريض لها؛ إلا أن هدفها الحقيقي أبعد من عباس، هدفها المناصب التي يشغلها.. بعبارة أوضح، هدفها النيل من حركة فتح، ومن منظمة التحرير الفلسطينية.
كثير من المواقف التي كانت سببا لانتقاد عباس ومهاجمته، مورس مثلها تقريبا في زمن «ياسر عرفات»، لكن يبدو أن الكاريزما التي كان يتمتع بها عرفات، ومكانته في وجدان الجماهير، والرمزية التي كان يمثلها.. حالت دون مرور مثل حملات كهذه، ومع ذلك تعرض للنقد والتخوين والتشكيك.. وحتى في أوج خوضه الكفاح المسلح، وزمن النقاء الثوري، وأيام المواجهة العسكرية المباشرة واليومية مع جيش الاحتلال.. لم يسلم عرفات ورفاقه من حملات التشويه.. اليوم يستغل خصوم فتح، والجهات التي لم تعترف يوما بمنظمة التحرير، تستغل حالة الضعف والتراجع التي تمر بها القضية عموما، وتستغل سياسات عباس وتصريحاته التي لا تحظى بالتأييد الشعبي، للوصول لمبتغاهم.. وطبعا برعاية أطراف إقليمية..
حين أرادت أميركا اعتقال نورييغا رئيس بنما الأسبق، قامت في اليوم الأول بعرض خبر مقتضب عن علاقة بين نورييغا وعصابات مخدرات، ثم على مدى الأيام اللاحقة زادت مدة عرض الخبر، مع تركيز أعلى، ثم صعّدت من الحملة إلى أن حدث تغير في الرأي العام، يتقبل فكرة اعتقاله.. وهكذا كان.. كل حملات تشويه عباس يُراد منها إيصال الرأي العام لنقطة يتقبل فيها إزاحته وكل ما يمثله من الساحة، لتكون مهيأة لمن سيرثها بالكامل.
الأغلبية الساحقة من الناس الذين انتقدوا عباس، وهاجموه لمشاركته في الجنازة، فعلوا ذلك لدوافع وطنية صادقة، ومن منطلق الوفاء لدماء الشهداء، وأيضاً، أغلب كوادر فتح ممن عارضوا الخطوة، طالبوه بعدم المشاركة حفاظا على ما تبقى من سمعة فتح، واحتراما لتاريخها النضالي.. هؤلاء جميعا لم يكن في بالهم الحملات المدروسة التي أتحدث عنها، لكنهم تأثروا بها، حتى لو لم يدركوا ذلك، وانساقوا في مجراها بوعي أو دونه.
المشكلة أن الذهنية العربية تخلط بين الموقف وصاحبه، وتستسهل التخوين والتكفير.. وحين يتشكل تيار شعبي عارم يصبح أي حديث منطقي سباحة ضد التيار، ومغامرة قد تودي بصاحبها، لأن اندفاع الجماهير (المخلص) يتحول إلى قوة غوغائية، خاصة عندما تلعب فيه أطراف خفية، وبطريقة غير ملموسة.. في هذه الحالة تصبح العاطفة الجياشة (وهي صادقة دون شك) سيدة الموقف، وتُقصي أي حسابات عقلانية.. ويتم الحكم مسبقا على أي رأي مخالف بأنه «سحيج»، ومنافق، ومنتفع.. وهذا ما يُعرف بدكتاتورية الرأي العام. والتجارب تخبرنا بأن أكبر الأخطاء التاريخية اقتُرفت حين خضعت القيادة لدكتاتورية الرأي العام.. وهذا لا ينفي وجود منافقين ومنتفعين.
الجماهير عادة صادقة بعاطفتها، ونقية بوطنيتها، ويجب أن تُسمع كلمتها، وأن تُحترم إرادتها.. لكن القيادة تتعامل وفق حسابات سياسية باردة، ولا تتأثر بالعواطف، والقيادة الحكيمة هي التي تستطيع التوفيق بين حس الجماهير وإرادتها الحرة، وبين التوجهات السياسية الصحيحة، والمواقف العقلانية، وتتخذ قرارها بشجاعة، حتى لو لم يعجب عموم الناس.
أغلب الذين عارضوا المشاركة بالجنازة، بنوا مواقفهم لأن بيريس اقترف مجرزة قانا، وبالتالي هو مجرم حرب.. وتلك حقيقة لا جدال فيها.. لكن عباس ومنذ زمن طويل وهو يصرح علانية ويعمل دون مواربة على مشروع السلام، وهو مؤمن به، ومقتنع بأنه الحل الصحيح.. وبناء عليه ساهم بفاعلية في صياغة اتفاقية أوسلو، وبناء عليه آمن بالمفاوضات والمقاومة السلمية.. وبالتالي فإن لقاءه «بيريس» وهو حي لا يختلف جوهريا عن المشاركة في جنازته، أي أن عباس كان يمارس قناعاته، وهو يدرك أن خطواته تلقى ردود فعل شعبية عنيفة وتعرضه لانتقادات حادة.. وهو مطلع على تفاصيل ماضي بيريس، وغيره، ويعلم أن كل قادة إسرائيل متورطون بجرائم حرب، وعلى أيديهم دماء فلسطينية.. لكن الموضوع عنده من ناحية مبدئية إما أن ترفض العملية السلمية برمتها، أو تقبل بها، وبكل ما تتضمنه من ممارسات ستجلب الانتقاد والشتائم.. واللعنات.. وهو طبعا اختار.
عارضنا المشاركة بالجنازة، لأنها كانت فرصة لتبني موقف غاضب من الإدارة الأميركية ومن المجتمع الدولي.. مقاطعة الجنازة ستلفت انتباه العالم أنه ليس هناك عملية سلمية، ولا يوجد شريك للسلام، وأن الأمور ليست على ما يرام، وهناك مشكلة كبيرة ينبغي حلها..