أقرّ بحثٌ أجراه الدكتور أوري ميلشتاين، ونَشرت مقاطع منه صحيفة «معاريف»، باستغلال الكيان الإسرائيلي الظروف والخلافات الداخلية العربية من أجل ترسيخ مكانته الإقليمية وتعزيز قوته الاستراتيجية. وليس صدفةً أن يُكثر رئيس حكومة العدوّ الأشدُّ يمينية في تاريخ الدولة العبرية هذه الأيام من الحديث عن السلام مع الدول العربية، ويُطالب أوروبا بالتعامل مع الكيان الإسرائيلي كما تتعامل معه دولٌ عربية. ومعروفٌ أن بيئة الخلافات الداخلية العربية تسمح للعدوّ بأن يلعب أدواراً في التحريض والتشجيع والتعزيز لقوى على حساب قوى أخرى. وتجاربُ التاريخ تشهد.
وتحت عنوان «القصة المفاجئة للسنوات العشر الهادئة الوحيدة التي عرفها الكيان الإسرائيل»، كتب ميلشتاين أنه طوال أكثر من 68 عاماً هي عمر الكيان العبري، نالت 11 سنة هدوءاً أمنياً فقط، ليس بعدم وقوع حروب فيها، بل لم تكَد تقع فيها عمليات فدائية. ورأى أن تلك الفترة كانت من نهاية العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وحتى عدوان حزيران 1967. واستثنى من ذلك انطلاقة المقاومة الفلسطينية مطلع كانون الثاني 1956، التي رأى أنها «أساءت إلى الوضع قليلاً». وحاول دراسة سبب حدوث ذلك في واقع معادٍ عاشه الكيان الإسرائيلي.
وأشار إلى أنّ العدوان الثلاثي كان مؤامرةً بين إسرائيل وفرنسا وبريطانيا، لإعادة سيطرة الأوروبيين على قناة السويس وتدمير السلاح التشيكي الذي اشترته مصر وضمّ أجزاء من سيناء إلى إسرائيل وإسقاط النظام الناصري في مصر. وقد فشلت هذه المؤامرة بفضل ظروف عربية ودولية، خصوصاً الموقف الأميركي الرافض لهذه المؤامرة. وفي كل الأحوال، تبنّت إسرائيل في تلك الفترة استراتيجية تأجيج الخلافات في العالم العربي.
وبحسب ميلشتاين، فإن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي خبر الحرب مع الإسرائيليين عام 1948 في الفالوجة وعام 1956، كان يعرف المستوى المتدني للقادة العسكريين المصريين. لكنه أدرك أنه في الوسع التغلب على إسرائيل حربياً وتدميرها، إذا تمّ بناءُ جيشٍ قويّ وناجع على مدى فترة طويلة بمساعدة سوفياتية. وبحسب التقديرات والمعلومات التي توفرت للإسرائيليين، فإن في الوسع محاربة إسرائيل في عام 1970. ومن أجل تحقيق هذا الغرض، كان ينبغي وقف الأعمال الفدائية من قطاع غزة وسيناء لسحب الذرائع من الإسرائيليين لمهاجمة مصر. وكان هذا أحدَ أهمّ أسباب الهدوء على الحدود في تلك الفترة.
وأوضح ميلشتاين أنّ بن غوريون كان من أنصار أرض إسرائيل الكاملة، إلا أنه كان يُدرك صعوبة تحقيق ذلك دفعةً واحدة. لذلك طوّر نظرية المراحل وانتظار الفرص. وقد تراجع بن غوريون عن فكرة أرض إسرائيل الكاملة، بعدما لاحظ إثر حرب 1956 أن العالم لن يسمح له بذلك وأمره بالانسحاب وتفكيك مستعمرتين أقامهما في شرم الشيخ ورفح. ولذلك قررت حكومة العدو مطلع الستينيات الاكتفاء بحدود الهدنة في عام 1949 والاستعداد لقبول السلام مع الدول العربية على أساسها، ومحاولة تجنب الحروب عبر إشعال الصراعات بين العرب.
وفي عام 1962، وقعت أزمة اليمن إثر إطاحة نظام الإمامة هناك وإعلان الجمهورية. وقادت هذه الأزمة إلى صراع بين الملكيين والجمهوريين، وبين مصر والسعودية، حيث دعمت كل منهما الطرف الأقرب إليها. وهنا حانت الفرصة للإسرائيليين، فقد أرسلت مصر جنوداً لدعم الجمهوريين. وبحسب أحد كبار باحثي الحروب في إسرائيل، فإن «عبد الناصر تورط في الأوحال اليمنية أيضاً بفضل المعونة الإسرائيلية، حيث كانت تسقط في الفترة بين 1964 و1966 بالمظلات، وبتنسيق مع جهاز الاستخبارات البريطاني، أسلحة للملكيين في عمليتين سُمّيتا صلصلة وتشجيعاً».
وبحسب ياعيل بار وليئور أستلاين، في مقال نشره في مجلة سلاح الجو الإسرائيلي، فإن «العملية تمّت تحت ستارٍ كثيف من السرية، لدرجة إجبار كل المشاركين فيها على التوقيع على تعهد بأن لا يتحدثوا عنها طوال حياتهم. وداخل سلاح الجو، انشغل بالتخطيط المقدم زئيف ليرون، الذي كان رئيساً لجناح الاستخبارات، والعميد ياك نبو الذي رئِس جناح الجو».
وبحسب الباحثين، فإنه خلال عمليات الإنزال الجوي اقترح المُنسّق البريطاني، طوني بويل، أن تقصف الطائرات الإسرائيلية مطار صنعاء. وقد وافق قائد سلاح الجوّ الإسرائيلي حينها، عيزر وايزمان، على التنفيذ، لكن رئيس الحكومة حينها، ليفي أشكول منع العملية. وقد تورط الجيش المصري في اليمن حيث كان له قبل حرب حزيران هناك ما لا يقل عن 70 ألف جندي. ولكن حرب اليمن زادت الصراع في المنطقة العربية، خصوصاً بين الأنظمة المحافظة كالسعودية والأردن، والأنظمة التقدمية كمصر وسوريا والعراق.
ولم تتوقف المعونة الإسرائيلية عند حدود الملكيين في اليمن، بل تعدتها إلى مساندة الكُرد في العراق بالتنسيق مع نظام الشاه في إيران ضد الحكومة العراقية. وكان ميلشتاين قد نشر قبل مدة كيف أفلح العميد تسوري شاغي الذي قاد قوات كردية، في تدمير لواء عراقي كامل قبل حرب 1967، وتدمير فرقةٍ كاملة بعد الحرب.
وإلى جانب ذلك، أنشأت إسرائيل قبل قيامها وبعد ذلك، علاقات معقدة مع كل من الملكين الأردنيين عبد الله الأول وحسين. وفي نظر ميلشتاين، كان يجري تشويش هذه الوقائع من خلال حدوث معارك.
وينقل ميلشتاين عن البروفسور موشي غات، أنه بعدما عجزت سوريا عن إقناع الدول العربية في مطلع الستينيات بتبني موقفها من تحويل مجرى نهر الأردن، قررت انتهاج استراتيجية العمل غير المباشر، وذلك بتشجيع ورعاية منظمات فلسطينية للعمل ضد إسرئيل. ويقول باحث آخر إن سوريا وحركة «فتح» توصلتا إلى تفاهم في عام 1963 بهذا الشأن. ويعتقد أن أعمالاً فدائية برعاية سوريا عبر الأردن كانت من بين العوامل التي قادت إلى حرب 67.
ويشدد ميلشتاين على أن تعيين إسحق رابين رئيساً لأركان الجيش الإسرائيلي تمّ على خلفية تقدير أنه لن تنشبَ حرب في ولايته، فهو غيرُ مناسب لقيادة الجيش في حرب لكنه الأنسب لإعداد الجيش لحرب تشنّ في عام 1970. ولكن الانقلابات في سوريا التي أوصلت مجموعة من البعثيين الذين عدّتهم إسرائيل متطرفين، قادت إلى تصعيد ميداني. ووقعت الحرب أملاً إطاحةَ نظام البعث في سوريا، بعدما أقدمت إسرائيل على مجموعة خطوات ضد النظام.