بعد 43 عاماً على حرب السادس من تشرين الأول 1973 ما زالت مراكز الدراسات الاستراتيجية، والمعاهد العسكرية، في العالم كله، تدرس هذه الحرب، خصوصاً في جانبها المصري.
لقد غيرت تلك الحرب الكثير من المفاهيم والأفكار، وأحدثت تحولات سياسية واستراتيجية وعسكرية.
كانت منطقتنا أشبه بجسد يُحتضَر، مع رضى القوى العظمى باستمرار «حالة اللاسلم واللاحرب» القائمة آنذاك، في ظل وجود تقديرات تشير إلى أنه لا أمل، عسكرياً، أمام المصريين والسوريين، في هزيمة الجيش الإسرائيلي.
والواقع أن القوات المسلحة المصرية كانت بدأت، فور هزيمة 1967، في إعادة تنظيم الجيش المصري وتسليحه، بعدما فقد أكثر من 70 في المئة من أسلحته ومعداته.
وبدأ الجسر الجوي في نقل أسلحة ومعدات من الاتحاد السوفياتي السابق إلى مصر التي شرعت في إعادة تنظيم قواتها المسلحة.
بنت القوات، تحت القيادة الصارمة للفريق فوزي، خط الدفاع الرئيس غرب قناة السويس، الذي استمر العمل فيه لمدة عام، اطمأن بعدها الرئيس عبدالناصر إلى أن الدفاعات المصرية، بتنظيمها وتسليحها، قادرة على إدارة معركة دفاعية أمام الجيش الإسرائيلي، إذا حاول اختراق قناة السويس.
وفي هذه الأثناء كانت القوات المسلحة حققت عدداً من الأعمال، التي كان من شأنها رفع الروح المعنوية للمقاتل المصري، التي فقدها، للأسف، بعد هزيمة 1967.
ومن أهم تلك الأعمال، معركة رأس العش، حين حاولت القوات الإسرائيلية، شرق القناة، التقدم في اتجاه بورسعيد، للاستيلاء على مدينة بورفؤاد، فتصدَّت لها مجموعة صغيرة من قوات الصاعقة المصرية، وأوقفت تقدمها.
كما كان للقوات الجوية المصرية دور كبير، في هذه الفترة، عندما قامت بغارة مفاجئة على العدو الإسرائيلي، في عمق سيناء، ما أعطى دفعة جديدة للجيش المصري.
ثم جاءت الضربة القاتلة، بتدمير «إيلات»؛ أكبر القطع البحرية الإسرائيلية، أمام ساحل بورسعيد، وحينذاك طلب الإسرائيليون من القيادة المصرية السماح لهم بانتشال القتلى والجرحى في عملية إنسانية.
وسوف يتوقف تاريخ العمليات البحرية طويلاً أمام إغراق المدمرة «إيلات» بقوارب الصواريخ المصرية الصغيرة الحجم، ما دفع مراكز الدراسات المعنية إلى تحليل هذا العمل العسكري غير النمطي.
وفي المؤتمر السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن IISS، تمَّ الإعلان عن المفهوم الجديد لتنظيم وتسليح أي قوى بحرية في العالم، والذي سيعتمد على الزوارق، ولنشات الصواريخ السريعة.
بل أعلن أن عصر بناء البوارج وحاملات الطائرات قد انتهى.
وبعد مرور عام، تقريباً، من هزيمة 1967 أعطى الفريق محمد فوزي، «التمَام» للرئيس جمال عبد الناصر، بجاهزية الخطة الدفاعية غرب القناة. وعليه أصدر عبدالناصر أوامره بالتخطيط للعملية الهجومية لاقتحام قناة السويس وتحرير سيناء.
في هذه الأثناء، كانت حرب الاستنزاف قد بدأت على ضفاف قناة السويس، بين الجيشين المصري والإسرائيلي، قام، خلالها، الجيش الإسرائيلي بتنفيذ عدد من الضربات والهجمات في عمق الأراضي المصرية، فهاجم مدن القناة، بورسعيد، والإسماعلية، والسويس، ما دفع الى تهجير سكانها.
في هذا التوقيت، كانت القوات المصرية بدأت في التدرب على عمليات عبور الموانع المائية، بينما كانت إسرائيل تبني خط بارليف، على الضفة الشرقية لقناة السويس.
ولا شك في أن الجيش المصري تعلم الكثير خلال حرب الاستنزاف التي استمرت نحو خمس سنوات، قام خلالها ببناء حائط الصواريخ المضاد للطائرات، الذي أصبح بعد حرب 1973 أحد رموز تطوير الفكر العسكري في العقائد القتالية. أذكر جيداً وجودي في غرفة القوات المسلحة، على الجبهة، أثناء حرب 1973، وأنا أستمع إلى رسالة مفتوحة غير مشفرة من قائد القوات الجوية الإسرائيلية إلى عناصره يطلب منهم عدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كيلومتراً، مع بدء اقتحام القوات المصرية للقناة. وهو الأمر الذي منح المصريين حرية الحركة لاقتحامها وتدمير خط بارليف وتنفيذ أعمالها القتالية من دون تدخل القوات الجوية الإسرائيلية.
ويوضح ذلك مدى تأثير حائط الصواريخ المصري، لجهة شل قدرة طيران العدو على تقديم العون لقواته على الأرض، محطماً بذلك أسطورة «اليد الطولى» لإسرائيل، وهي سلاحها الجوي، الذي طالما تغنت به بعد نجاح الضربة الجوية الإسرائيلية في العام 1967.
ومع انغماس القوات المصرية في التدريب على عمليات العبور ظهر الكثير من المشاكل أمام المُخطط المصري، مثل ارتفاع الساتر الترابي على الضفة الشرقية للقناة.
إذ كانت مخرجات تطهير قاع قناة السويس يتم تجميعها على الضفة الغربية للقناة، ووصل ارتفاعها إلى نحو 20 متراً، وكانت إزالة هذا الساتر ضرورية لإحداث فتحات الجسور للعبور. ومن هنا جاءت فكرة المهندس العسكري المقدم - باقي يوسف زكي، باستخدام المضخَّات المائية، التي كانت تستخدم في بناء السد العالي، في هدم ذلك الساتر الترابي. كذلك كان هناك أسلوب التعامل مع أنابيب النابالم، التي وضعتها إسرائيل على ضفاف القناة. فتمَّ التخطيط لتخطي هذا العائق، بأن تتقدم مجموعات من الصاعقة، قبيل بدء الهجوم، لسد أنابيب النابالم أو تفجير خزاناتها. كما كانت نقاط خط بارليف الحصينة إحدى المشاكل أمام المخطط المصري للهجوم، فما كان إلا أن تكونت مجموعات قتال خاصة، لمهاجمة كل نقطة دفاعية من نقاط خط بارليف.
تلك لمحات سريعة، من شاهد عيان، لما تمَّ في ميادين القتال.
لكن ما لا يقل أهمية، هو ما حدث في مراكز الدراسات الاستراتيجية وما قام به المحللون العسكريون، بعد انتهاء حرب أكتوبر، حيث عكف الجميع على الاستفادة مما قدَّم المصريون من فكر عسكري سواء في تطوير أساليب القتال أو إعادة تنظيم القوات أو في حساب التوازنات العسكرية. وكان من أهم الإضافات التي حققتها حرب أكتوبر، لمبادئ القتال في العقيدة الغربية، مبدأ «النوعية»، فقد كان الاتجاه في مقارنة القوات، قبلها، يعتمد فقط على أعداد الأسلحة والمعدات. جاءت حرب 73، لتقلب الموازين، تماماً، خصوصاً أن التقارير العسكرية الدولية كانت تؤكد تفوق إسرائيل، ما أسهم في إقناع الكثيرين بأن مصر لن تغامر بشن حرب أفرزت عاملاً لم يظهر من قبل في حسابات القوى، وهو الجندي المصري.
ذلك الجندي الذي دفع الجنرال ارئيل شارون، في مناظرة معي شخصياً، عن حرب أكتوبر 1973، أذاعها التلفاز البريطاني، عند سؤاله عما يراه مفاجأة حرب أكتوبر، وإذا ما كان يعتبرها توقيت الهجوم في الثانية ظهراً، أم اختيار موعد الهجوم في عيد الغفران، أم إن المفاجأة كانت في الهجوم على الجبهتين المصرية والسورية في وقت واحد؟ وأجاب شارون أن المفاجأة الحقيقية في حرب 1973 كانت «الجندي المصري الذي وجدته يحارب أمامي. لم يكن هو نفسه الجندي الذي حاربته في1967، أو حتى العام 1956».
وازددتُ فخراً بانتمائي للمؤسسة العسكرية وأنا أسمع هذا الجواب، فالجندي المصري في العام 1973 اختلف بالفعل، وأصبح من حاملي الشهادات العليا وروحه المعنوية مرتفعة وإيمانه بالنصر كان أقوى من الحسابات والتوقعات. واستطرد شارون، ضارباً مثالاً لما شهده بنفسه، أثناء قيادته سرية مكونة من 10 دبابات، في اتجاه الإسماعيلية، بهدف الهجوم على منطقة الدفرسوار، وظهر أمامه، فجأة، خمسة «كوماندوز» مصريون (يقصد من قوات الصاعقة) وهو ما يعني هلاكهم، وفق المقاييس العسكرية، إلا أن هؤلاء الأبطال تأكدوا من تحطيم سرية الدبابات الإسرائيلية، قبل أن ينالوا شهادتهم. وهي المعركة التي أصيب فيها شارون، وتم نقله، على أثرها، إلى إسرائيل. وأضاف شارون، أثناء المناظرة، إنه يجب على إسرائيل في أية حرب قادمة وضع نوعية هذا الجندي المصري الجديد في اعتبارها.
ويرجع الفضل للمقاتل المصري، وما حقَّقه، في حرب 1973، في أن المعاهد العسكرية أضافت بنداً جديداً لحسابات القوى ومقارنة القوات هو حساب «النوعية القتالية»، ويقصد بها الفرد المقاتل.