رحلة الحياة، البدايات (1-2)

عبد الغني سلامة
حجم الخط

لا أحد يعلم على وجه اليقين متى وُلد هذا الكون، ولكن العلماء متفقون أنه بدأ بانفجار عظيم، ويقدمون شرحا بالتفصيل الممل عمّا حدث خلال الدقائق الثلاث الأولى من هذا الانفجار الذي بدأ في نقطة ما، في لحظة ما.. هي ليست بلحظة.. ليس قبلها أي زمان، ولكنها ستلد الأزمان كلها، هي قبل ذلك لا شيء، ولم تكن في أي مكان، ولكنها عمّا قليل ستملأ الآفاق.. نقطة متناهية الصغر، ولكنها ستُنجب كونا كاملاً.. يلفها ظلام دامس، أو بياض مدهش، لا أحد يعرف، فلا وجود للألوان.. قبل ذلك لم تكن حارّة، ولا باردة، فلا يمكن قياسها.. بعد برهة ستصبح لا متناهية الحرارة، حتى أن حرارتها ستفوق الوصف.. نقطة واحدة بكثافة لا نهائية اختزلت كل هذا الكون، وحبلت به لأجزاء ضئيلة من الثانية، بكل طاقته الكامنة.
هذه النقطة بمثابة الصندوق الأسود، الذي يخبئ داخله كل أسرار الكون وألغازه، والذي حتى لو عثرنا عليه؛ لن نتمكن من فتحه وكشف محتوياته.
يصف «ستيفن هوكنغ» لحظة الانفجار الأول: كانت قوانين الفيزياء معطلة؛ وبالتالي عاجزة عن استشفاف المستقبل، ولكن بعد حوالى جزء من مائة من الثانية، وهي أقدم لحظة يمكن للعلماء أن يصفوها بشيء من الدقة، ستهبط درجة الحرارة إلى مائة مليار درجة مئوية، ثم تواصل هبوطها حتى تبلغ العشرة مليارات، ومع استمرار تبريد هذا الحساء الكوني وتناقص كثافته وفي أجزاء قليلة من الثانية الأولى ستصبح النقطة بحجم المجموعة الشمسية، وبعد ثلاث دقائق من الانفجار العظيم ستتشكل النواة الأولى، فمع هبوط درجات الحرارة، باتت التفاعلات النووية ممكنة.
وبعد ثلاثمائة ألف سنة، وهي في عمر الكون تقارب الزمن اليسير بين ولادة الطفل من رحم أمّه وصرخته الأولى، سيبرد الكونُ إلى 4000 درجة مئوية، عند تلك الحظة سيوُلد النور لأول مرة.
وبعد ثلاثة مليارات سنة ستظهر النجوم الأولى داخل زوابع هائلة من غبار النجوم، ثم تتشكل المجرات، ولكن علينا أن ننتظر خمسة مليارات سنة لنشهد ميلاد شمسنا الدافئة، ثم خمسة مليارات أخرى ليولد كوكبنا الأم، مع عائلته الصغيرة: المجموعة الشمسية.
وبعد نصف مليار عام من ميلادها، سيضرب الأرض كويكب اسمه ثيا، وسينشأ عن هذا التصادم تطاير أجزاء من قشرة الأرض سيحل محلها فيما بعد المحيط الهادي، فيما هي ستشكل القمر.
نحن الآن على صهوة كوكب مجنون، حرارته خرافية، يدور حول نفسه بثلاثة أضعاف سرعته الحالية، والقمر أقرب إليه من منـزلته الحالية بخمسين مرة (ربما كان أجمل بخمسين ضعفا)... الآن تموج الأرض بالبراكين والزلازل، غلافها الجوي بلا حماية، ويابستها خراب، لا ماء فيها ولا هواء، ولا أثر لكائن حي، فلا شيء فيها يُغري للعيش.. سيمضي على هذه الحال مليارا عام، قبل أن تهدأ سرعتها وتبرد، وتملأ قيعانها بماء المحيطات القادم من الفضاء محمولا على صهوات النيازك، وتكوّن حولها غلافاً من الأوكسجين والغازات، وتتهيأ عليها الظروف لانبثاق أول أشكال الحياة.. ثم ملياران آخران لتسمح بأول الكائنات أن تخرج للوجود.. ثم بضع مئات من ملايين السنين موعد الانفجار الكامبري، ليكسوها غطاء أخضر، وأصنافا شتى من الكائنات، ثم ملايين أخرى قبل أن يَنطِق أول إنسان بأولى الكلمات..
خلال هذه الملايين الكثيرة من السنين، امتلأ كوكبنا بأشكال لا حصر لها من الحياة، كانت في كل مرة تُفجع بكارثة بيئية، أو تُصدم بجرم فالت من أطراف السماء، فيحدّق كل من على الأرض مباشرة بعينيّ الفناء، فتجّرب الأرضُ نوعا آخر للحياة، حتى تنجح أخيرا في تكوين مشهدها الخلاب.
وبعد مليوني عام من ظهورنا لأول مرة، وبعد خمسة آلاف سنة من اختراعنا للقلم، وما بينهما من تاريخ طويل من اللاوعي، نكون أول كائن حي يكتشف نفسه كناتج أخير لهذا المسلسل الطويل من التعقيد، وأول كائن يعي نفسه وما حوله، ولديه القدرة على إعادة رسم هذا الخط الممتد الطويل والعودة به إلى الوراء، حتى بداياته الأولى.
من وحي هذه القصة، ما زال أمام العلماء والمؤرخين مهمة لم تكتمل بعد، وهي اشتقاق تاريخ الإنسانية وصبّه في مجرى تاريخ الكون. ليدرك الإنسان مكانه ومكانته في هذا الكون الواسع. لعله يجيب عن أسئلته المؤرقة: هل نحن وحدنا في هذا الفضاء؟ ولماذا نحن على هذه الأرض؟ ولماذا هي الحياة؟
يقول «كارل ساجان»: اليوم، لو سافرنا في الفضاء الخارجي، وهبطنا على القمر سنرى أرضنا العزيزة بحجم بطيخة، ولو واصلنا المسير واقتربنا من المشتري سنرى كوكبنا العظيم بحجم رأس دبوس، ولو خرجنا من المجموعة الشمسية ستبدو لنا الأرض مجرد نقطة باهتة في الأفق البعيد، بالكاد نلمح منها وميضا خافتا.. ولو غصنا أكثر داخل درب التبانة، سنرى مجموعتنا الشمسية بأكملها مجرد نقطة معلقة في فضاء مجهول، أما إذا خرجنا من مجرتنا وتهنا في الفضاء المترامي الأطراف بلا حدود، ربما تبدو لنا مجرتنا بكل عظمتها وبهائها مجرد نقطة أصغر من ذرة منثورة على شاطئ بحر.
ذلك هو الكون الذي نعيش فيه؛ مليارات المجرات والنجوم والثقوب السوداء، حدود خرافية لا متناهية في العظمة والاتساع.. ولو أدخلنا بطريقة ما إنساناً إلى هذا الكون الفسيح؛ فإن احتمال أن يجد نفسه على كوكب الأرض بالصدفة سيكون احتمالا يقل عن واحد من مائة ترليون احتمال.
الآن، لنعد أدراجنا إلى حدود مجموعتنا الشمسية، لنلقِ نظرة من هناك على كوكب الأرض، رغم أننا لن نرى سوى نقطة زرقاء باهتة متناهية في الصغر (كما وصفها ساجان).. بالكاد يظهر منها وميض طفيف، لكنها في حقيقة الأمر كوكب الأرض؛ موطننا، حيث نعيش، وحيث توجد عليه كل آمالنا وأفراحنا وأحزاننا وصراعاتنا... ورغم ضآلة حجمه، وضآلة تاريخ الإنسان فوقه، إلا أن هذا الإنسان هو بالنسبة لنا كل شيء.. فهو الكائن الوحيد الذي يعي هذا الكون، وما زال رافضا الاستسلام أمام اتساعه وعظمته.
أيها الإنسان، تواضَع لله، فما أنت سوى طيف عابر، أدنى من فراشة حطت على ظهر الجبل، ستصبح ذكرى عمّا قليل، ثم لن يذكرك أحد.