نـــدّيـــة الـــتـــفـــاوض

Sadeq-Alshafy
حجم الخط
سكب حبر كثير في الكتابة عن التوصل الى تفاهمات تمهد لصياغة الاتفاق النهائي حول البرنامج النووي بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن ومعها ألمانيا، وسيسكب حبر اكثر في استمرار الكتابة حول نفس الموضوع تحليلاً وتفسيراً واستنتاجاً وقراءة لما بين السطور وما خلفها وتصوراً وتوقعا لتأثيرات التوصل الى التفاهمات على أوضاع المنطقة العربية وإقليمها المحيط والعلاقات بين مكوناتها وعلى توازنات القوى العالمية أيضا. وسيكتب الكثير حول توقع استمرار التفاهمات وصمودها في وجه الكثير من المعارضة التي تواجهها والضغوط التي تتعرض لها والنقاط الخلافية التي ما تزال قائمة بين أطرافها قبل ان تصل الى الاتفاق النهائي او تسقط قبل الوصول اليه.
الكتابة تختلف بالطبع، حسب مواقف وقناعات ومصالح أصحابها او من يعبرون عنها بين مؤيد ومتشكك ومتخوف ومعارض ومصادم لما تحويه التفاهمات، وما يمكن ان تتطور إليه حتى الوصول الى الاتفاق النهائي.
ليس المقصود بهذا المقال الانضمام الى الكتابة عن التفاهمات بالطريقة والمعنى الذي تم وصفه. المقصود هو وضع سؤال أساسي وتفرعاته في دائرة النقاش:
لماذا قبلت أكبر وأقوى دول العالم: أميركا والدول الأوروبية الأقوى ومعها روسيا والصين التفاوض مع إيران ولوحدها؟ ولماذا صبرت على المفاوضات كل هذه السنين وقبلت بالتعامل والتباحث بكل جدية مع كل موضوعاتها شديدة الإشكالية والتعقيد وسخرت لها مسؤوليها وأخصائييها وعلماءها؟ ولماذا قبلت بمواجهة المعارضات القوية لمبدأ التفاوض مع إيران من داخل دولها ومن دول وقوى كثيرة خارجها؟ وما هي مصادر القوة التي تمتلكها إيران حتى تفرض على تلك الدول القبول بالمفاوضات والاستمرار بها وبهذا المستوى من الندية؟ 
بالتأكيد، لا يمكن تجاهل دوافع إيجابية لدى الدول المتفاوضة تتعلق برغبتها ان يعم السلام العالم وان تجنب العالم المخاطر النووية وقدراتها التدميرية على البشرية. ولا يمكن تجاهل عامل، او عوامل المتغيرات العديدة التي حدثت على المستوى العالمي وعلى توازن وعلاقات القوى فيه، وتأثيرها على الإقليم الذي تشكل إيران إحدى دوله. وبالطبع تبقى هناك المصالح الخاصة بتلك الدول في المنطقة والحرص على بقاء الموجود منها بأمان، والرغبة باستثمارات ومصالح جديدة، وما يتطلبه ذلك من استقرار الإقليم وامنه.
لكن في الجهة المقابلة تبقى هناك نقاط قوة عديدة في الموقف الإيراني لا يمكن إنكار دورها وتأثيرها الأساسي:
أول هذه النقاط، هي الوحدة المجتمعية التي تتمتع بها ايران، فحتى مع وجود معارضة ومتشددين الا أنها استطاعت ان تخوض المفاوضات تحت راية الوطنية الإيرانية وظل قرارها دائما وطنيا ومحكوما بالعوامل الوطنية الخالصة، والوحدة المجتمعية في إيران، وبغض النظر عن ملاحظات هنا واعتراض على سياسات ومواقف هناك، ووجود أقليات ألحقت بالدولة الإيرانية نتيجة مساومات ومحاصصات دولية في ظروف معينة، فإنها تبقى في مظهرها العام تضرب عميقا لسنين طويلة في تاريخ البلد، بما يؤكد استقرار طابع الدولة/ الأمة الذي تتمتع به بشكل عام.
وثاني هذه النقاط، أنها استطاعت رغم إجراءات المقاطعة والحصار والعقوبات المفروضة عليها ان تطور برنامجها النووي نفسه الى مستويات متقدمة وفي مجالات متعددة وبما يجعل الأفق مفتوحا أمامها للوصول به الى حيث تريد وتحتاج. وان ذلك تحقق بإمكانياتها الخاصة وبجهود علمائها وفنييها. وهو ما ساهم كثيرا في فرض التعامل معها ومع مشروعها بكل جدية.
 وثالث هذه العوامل، أنها طورت أيضا، نظما للعلوم على اختلاف فروعها، ما سمح بإطلاق قدرات شبابها والكشف عن إمكانيات علمية وتطويرية كثيرة ساعدت في تقدمها على اكثر من صعيد.
ورابع هذه العوامل أنها تملك مخزونا كبيرا من الموارد والثروات الطبيعية في مقدمها الغاز والنفط مكناها من بناء اقتصاد وطني قادر ومتطور على الرغم من الحصار والعقوبات بالاعتماد على مصادرها وعلمائها وفنييها.
وخامس هذه العوامل، أنها استطاعت بالاستفادة من اكثر من عامل جغرافي وتاريخي وديني واقتصادي وسياسي ان تفرض لنفسها حضورا فاعلا لا يمكن تجاهل دوره وتأثيره في عموم الإقليم ودوله. وبغض النظر عن اختلاف الرؤيا لهذا الدور وخلفيته واستهدافاته وتبعاته وطريقة وشكل القيام به وربما أسلوب فرضه، الا انه يبقى حقيقة قائمة لا يمكن للدول التي تتفاوض مع إيران الا ان تأخذها بالحسبان، ثم انها أوجدت لنفسها موقعا في الاستراتيجيات ومناطق القوة والنفوذ العالمية التي يجري إعادة رسم خرائطها.
بكل هذه العوامل، وربما بغيرها، فرضت إيران على اكبر وأقوى دول العالم ان تتعامل معها بجدية وان تتفاوض معها طوال هذه السنين وبهذه الدرجة من الصبر.
 ولا يقل أهمية، أن إيران نجحت في فرض مستوى من الندّية في التعامل مع هذه الدول لم تكن معتادة قبل ذلك.
ليس المقصود من كل ما تقدم تبجيل إيران، ولا تمجيد إنجازاتها أو تأييد مواقفها وسياساتها، ولا القفز فوق قضايا خلافية قائمة معها في المنطقة، ولا تجاهل طموحاتها ان تتحول الى قوة إقليمية كبرى تتصرف بهذا المنطق وتسعى لتحويل المنطقة العربية او بعضها الى مجال حيوي لها، بالذات إذا تطورت التفاهمات الأخيرة الى اتفاق مبرم وتم رفع العقوبات عنها، خصوصا وأنها تجد أمامها منطقة مفتوحة وفارغة من مشروع عربي يملأ ذلك الفراغ ويتوازى او يتنافس مع مشروعها.
المقصود، أخذ المثل الإيراني، ولو حتى من موقع الاختلاف مع كله او بعضه، باتجاه بلورة مشروع عربي يلبي طموحات أهل المنطقة ودولها في السيادة الوطنية والتنمية والتطور الاجتماعي والديموقراطي، ويفرض لها وجودا معتبرا في الإقليم وفي العالم، بالاستفادة من الإمكانات الكبيرة والمتنوعة المتوفرة.