الهبة الشعبية التي إنطلقت من مدينة القدس قبل عام في تموجات صعوداً وهبوطا كإشتباك إنتفاضي ميداني حافظت على مظاهرها العامة الكفاحية، وتنوعت أشكالها من عمليات طعن ودهس إطلاق نار، وكذلك إحتجاجات شعبية وجماهيرية مظاهرات، اعتصامات ومسيرات وغيرها وإن كانت محدودة وليس بالزخم المطلوب.
اسرائيل فشلت في القضاء على النواة الصلبة لهذا الإشتباك الإنتفاضي، الشباب الذين شكلوا عنوان وقادة هذه الهبة الشعبية، رغم كل أشكال القمع والتنكيل والعقوبات الجماعية والإعتقالات والإبعادات وهدم البيوت، وسن القوانين والتشريعات والقرارات ذات البعد العنصري، والتي تحمل في ثناياها سياسة تطهير عرقي.
أجهزة الأمن والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، نشرت تقديرات بان الهبة الشعبية التي انطلقت من مدينة القدس في الثالث عشر من شهر تشرين ثاني من العام الماضي في طريقها الى الخفوت والموات، وقد اعتمدت تقاريرها وتحليلاتها وقراءتها وتقديراتها على ان التراجع في تلك العمليات بشكل رئيسي في الشهرين الماضيين ضد جنودها ومستوطنيها له علاقة بما قامت وتقوم به الأجهزة الأمنية من ملاحقة للمحرضين على مواقع التواصل الإجتماعي، والتواجد المكثف لقوات الأمن في مناطق وبؤر التوتر، وكذلك السياسة الحكيمة لرئيس الأركان الإسرائيلي في المحافظة على روتين الحياة اليومية للفلسطينيين، وما حدث من عودة للعمليات في الفترة الأخيرة، والتي كان آخرها عملية الشهيد مصباح أبو صبيح بالأمس في قلب مدينة القدس وبالسلاح الناري، أربك المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وقيادة الجيش حيث عمدت الى تبرير ذلك بالقول بأن فترة الأعياد اليهودية تشهد عمليات تصعيد بالإضافة لربما تكون سياسة "العصا والجزرة" التي اعلن عنها وزير الدفاع الإسرائيلي "ليبرمان" للعودة بالأوضاع في الضفة الغربية الى مرحلة روابط القرى البائدة" و"المخترة" هي التي تدفع الى مثل هذا التوتر والتصاعد.ومثل هذه التوقعات سادت قبل العملية التي نفذها الشهيد أبو سرور قبل حوالي أربعة شهور في إحدى الباصات الإسرائيلية في مدينة القدس، مما يدلل ويؤكد على أن القراءات والتحليلات والتقديرات الإسرائيلية لا تلامس الجوهر والأسباب الحقيقة لإستمرار وتواصل الهبات الشعبية الفلسطينية هبوطاً وصعوداً، بل ان عوامل تغذيتها ومواصلتها مرتبطة بشكل رئيسي بما يجري على الأرض وتصاعد حالة القمع والتنكيل والعقوبات الجماعية التي يتخذها ويمارسها الإحتلال بحق شعبنا الفلسطيني، واضح بان العمل والإشتباك الإنتفاضي ياخذ اكثر من شكل، ولعل ما يجري في المحيط العربي من حروب وعمليات، وكذلك في دول العالم الأخرى، قد يشكل نموذجا للشباب الفلسطيني، خصوصاً بان هؤلاء الشباب يشعرون بأن لا مستقبل امامهم في ظل وجود الإحتلال، فهناك أفق سياسي مغلق وتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني، بل وإقصاء له من الوجود.
الإحتلال بعد كل عملية فلسطينية، يبحث عن المزيد من الإجراءات العقابية والحلول الأمنية بحق الفلسطينيين، تلك العقوبات التي تتمثل في دفع المزيد من الكتائب وألوية الجيش الإسرائيلي الى القدس والضفة الغربية، والعقوبات الجماعية من هدم للمنازل وتقيد حرية الحركة والتنقل للسكان، بإغلاق القرى والبلدات الفلسطينية بالمكعبات الإسمنتية والأتربة والصخور، سحب التصاريح ومنع السكان من الدخول الى الضفة القدس ومناطق 48 – الإعتقالات وتشديد الأحكام بحق المعتقلين، التشريعات بإطلاق الرصاص بهدف القتل، تكثيف الإستيطان وعمليات التطهير العرقي، هدم والإستيلاء على المنازل، إقتحامات متكررة وحفريات متواصلة حول وأسفل الأقصى..الخ، كل هذا يعبر عن غطرسة وعنجهية إسرائيلية وعقلية امنية يقودها وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي "ليبرمان" ومعه المؤسسة الأمنية من "شاباك" وغيرها بأن العرب والفلسطينيين من منهم لا يخضع بالقوة، يخضع بالمزيد منها، وأن ظروف وواقع الفلسطينيين الضعيف والمنقسم على ذاته، وما يحدث من تطورات على الساحة العربية من حروب مذهبية وطائفية وانتحار ذاتي وتقدم الهم القطري على الهم القومي، والتطور في العلاقات الإسرائيلية مع ما يسمى بالدول السنية العربية نحو التنسيق والتعاون والعلاقات العلنية، وتعطل الإرادة الدولية وعدم قدرتها على فرض حل سياسي على اسرائيل، من شأنه أن يمكن اسرائيل من فرض إستسلام على الشعب الفلسطيني، أو سلام اسرائيلي قائم على شرعنة وتأبيد الإحتلال مقابل تحسين شروط وظروف حياة الفلسطينيين تحت الإحتلال وبتمويل عربي وأوروبي.
كل هذه العقوبات الجماعية والإجراءات والممارسات القمعية الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني وما يستتبعها من قرارات وتشريعات وقوانين لوأد الهبة الشعبية وكسر وتحطيم إرادة الشعب الفلسطيني، ودفعه للتخلى عن الصمود والبقاء ومقاومة الإحتلال الصهيوني، وقبوله بالمشاريع الإسرائيلي أثبتت التجربة بالملموس انها تفشل، وبأن هذه العقوبات تقول لصناع القرار الإسرائيلي، أنه مهما تعاظمت قوة اسرائيل، ومهما طغت وتجبرت فإن هناك محدودية القوة الإسرائيلية، وبأن تلك العقوبات لا تخرج عن النسق المتوقع، وبصرف النظر عمن يقود السياسة الأمنية الإسرائيلية عاقل مثل وزير الأركان السابق يعلون او مجنون حالياً مثل ليبرمان.
الاحتلال بأجهزته الأمنية وبكل ما يمتلكه من خبرات وأجهزة تجسس وتكنولوجيا متطورة، وعمليات تنسيق امنية، بدا غير مسيطر على الوضع او لا يمتلك المعلومات الكافية عن الوضع الأمني في الضفة الغربية، وبأن ما يطلق عليه بعمليات "الذئاب" الفردية والعفوية، هناك عجز في رصدها ووقفها او إفشالها، حيث النسبة الكبيرة تنفذ، بعكس العمليات التي أتت في إطار تنظيمي، فهي تمكن من إحباط معظمها قبل تنفيذها، وهذه العمليات التي عادت مجدداً في فترة عيد الأضحى المبارك، وسقط فيها العديد من الشهداء المتهمين بتنفيذ عمليات طعن او دهس وإطلاق نار وغيرها، والتي كان آخرها عمليتا الطعن وإطلاق النار اللتين نفذهما الشابين ايمن الكرد من رأس العامود في منطقة باب الساهرة بالقدس ومصباح أبو صبيح، في منطقة الشيخ جراح بالقرب من مقر شرطة الإحتلال القطرية، تلك العمليتان كبدت الإسرائيليين قتلى وجرحى، والمسألة ليست في الثمن البشري، القتلى والجرحى، بل هذه العمليات تحمل رسائل واضحة للإسرائيليين بأن الحلول لا تكمن في الجوانب الأمنية والتنكر للشعب الفلسطيني وفرض الشروط والإملاءات عليه، بل لا بد من الإعتراف بحقوق شعبنا الفلسطيني وحقه في الوجود والبقاء والعيش بحرية وعزة وكرامة بعيداً عن الإحتلال، فلا يمكن لشعبنا الفلسطيني ان يقبل بان يستمر الإحتلال جاثماً على صدره، هذا الشعب مد يده للسلام وقدم الكثير من التنازلات من اجل السلام، ولكن وجدنا ونجد انفسنا كشعب فلسطيني امام حكومات اسرائيلية متعاقبة، آخرها هذه الحكومة التي تضم كل مكونات ومركبات اليمين الوطني الصهيوني والديني، التي تعيش وهم أن الشعب الفلسطيني سيرضخ ويقبل بشرعنة وجود الإحتلال، فلم يعرف التاريخ لا بقديمه او حديثه شعباً خان قضيته وتنازل عن حقوقه أو تخلى عن أرضه.
عملية القدس التي جرت امس تعيد القدس لتصدر المشهد الإنتفاضي من جديد بعدم على مرور الإنتفاضة، هذه المدينة التي يعمل المحتل على عزلها عن محيطها الفلسطيني ديمغرافيا وجغرافياً، وممارسة كل أشكال التطهير العرقي والعقوبات الجماعية بحق سكانها، تثبت كل يوم بانه رغم كل حالة الضعف الفلسطيني، فالحلقة المقدسية عصية على الكسر، وانه مهما استقدم المحتل من تعزيزات عسكرية وشرطية وبطش ونكل بهم، فلن ينجح في كسر إرادتهم، وانه لا مناص امام المحتل سوى الإعتراف بحقهم في الوجود، حقهم في ان يكون لهم دولة ترعاهم وتهتم بشؤونهم ومستقبل أبنائهم، دولة فلسطينية تكون قدسهم عاصمتها، فالمشهد المقدسي مرشح للمزيد من التصعيد في ضوء ما تقوم به حكومة الإحتلال من شنها لحرب شاملة عليهم، تطال ارضهم تهويداً وبشرهم أسرلة، وكل ما يتصل بذلك من تجسيدات مادية من برامج وخطط ومشاريع وآليات تنفيذية لتحقيق ذلك.