نجحت الإدارة الأميركية من خلال جهود وزير الخارجية جون كيري، بإطلاق العملية التفاوضية الفلسطينية ـ الإسرائيلية في جولتها الرابعة في أواخر تموز 2013، بعد 22 عاماً على مفاوضات مدريد، و21 عاماً على اتفاق أوسلو، ومع أن مجالات التفاوض تنطلق من الملفات السبعة المؤجلة من اتفاق أوسلو للوصول إلى الحل الدائم هي القدس والحدود والأمن والاستيطان والمياه والأسرى واللاجئين، إلاّ أن الجانب الإسرائيلي أصرّ على أن تعطى الأولوية لملفي الحدود والأمن بذريعة أن التوصل إلى توافقات على هذين الملفين من شأنه أن يسهل التوصل إلى حسم الملفات المتبقية.
من الناحية العملية، هذا الأمر صحيح تماماً إذا ما أخذنا بالاعتبار المسألة الشائكة والمعقدة التي تتعلق بما تسميه الدولة العبرية "التهديدات الأمنية" هذا المصطلح يكاد يطغى دائماً على كافة الملفات من زاوية أن التهديدات الأمنية هذه تتعلق بكل مجالات الحياة والبقاء بالنسبة للدولة العبرية، وتنظر إسرائيل لكل ملف من الزاوية الأمنية البحتة قبل أية تفاصيل أخرى، لذلك كله يمكن فهم إصرار إسرائيل على منح ملفي الحدود والأمن الأهمية والأولوية بالنظر إلى فهمها "للتهديدات الأمنية" وبات من الواضح أن هذا الفهم، كان أحد الأسباب الأساسية وراء فشل هذه العملية التفاوضية، وفشل كافة المساعي من أجل استئنافها!
ينطلق الفهم الإسرائيلي "للتهديدات الأمنية" من واقع أنها على الرغم من قوتها العسكرية الهائلة، إلاّ أنها تفتقر إلى العمق الاستراتيجي والموارد المحدودة، والأهم أنها تقع في بيئة معادية، هذا ما أشار اليه الباحث مايكل هيرتسوغ في بحث نشره موقع "معهد واشنطن" قبل أيام قليلة، هيرتسوغ هذا ضابط احتياط في الجيش الإسرائيلي، وشارك في كثير من جولات التفاوض مع الجانب الفلسطيني منذ عام 1993. لهذا فإن الدراسة المنشورة حول الفهم الإسرائيلي لمصطلح التهديدات الأمنية ينطوي على أهمية كبيرة.
الاصرار الفلسطيني على انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي المحتلة عام 1967، يشكل التهديد الجوهري للأمن الإسرائيلي، يقول هيرتسوغ، إذ أن هذا الانسحاب في حال حدوثه سيترك إسرائيل تحت التهديد المباشر للسهل الساحلي عند نقطة ضيقة بعرض 15كلم، على أشراف تلال وجبال، ما يهدد المدن الإسرائيلية الكبرى كون هذه المدن تمنح الدولة العبرية 80 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويعيش فيها 70 بالمائة من سكانها فضلاً عن بنيتها التحتية ومطارها الدولي الوحيد!
وتشير الدراسة إلى مسألة الدولة الفلسطينية، وتنظر إلى مستقبل هذه الدولة في حال قيامها، ان هناك احتمالات متزايدة، بالنظر إلى الأوضاع في المنطقة، بأن يسيطر "الإسلاميون" على هذه الدولة، وإسرائيل لن تترك مثل هذا الاحتمال لمجرد صعوبة حدوثه كما قد يرى البعض، ويقول هيرتسوغ لتأكيد رؤيته إلى أن ما يسمى الربيع العربي فاجأ الجميع، ولم يكن محتملاً على الإطلاق، لكنه حدث، وها هي داعش تسيطر على دول وأراض عربية، وكانت مفاجأة للجميع، فلماذا لا يمكن احتمال سيطرة قوى "متطرفة" على الدولة الفلسطينية المحتملة؟!
لضمان عدم وقوع الدولة العبرية تحت سطوة "التهديدات الأمنية" فإن إسرائيل عمدت إلى صياغة مختلفة لحل الدولتين، صياغة رفضها الجانب الفلسطيني تماماً، وهو الأمر الذي أدى إلى فشل العملية التفاوضية، حسب هيرتسوغ!
هذه الصياغة تنطلق من ثلاثة اعتبارات: تعديلات أساسية وليست هامشية في اطار "تبادل الأراضي" تهدف إلى رسم حدود أكثر أماناً ويسهل الدفاع عنها، تشمل ضم الكتل الاستيطانية الكبرى، الأمر الذي يزيد من العمق الديمغرافي ـ الأمني للدولة العبرية، ولتعزيز هذا المستوى من الأمن، يجب توفر ترتيبات أمنية أبرزها نزع سلاح الدولة الفلسطينية، أما الاعتبار الثالث، فيرتكز على إقامة نظام أمني خاص على ضفتي نهر الأردن، يشمل نشر جيشها، بشكل محدود لكن فعال، مهمته التحقق من نزع السلاح وعامل رادع ويوفر إنذاراً مبكراً.
استقرار "الدولة الفلسطينية" مطلب إسرائيلي إذا ما توفرت العناصر الثلاثة المشار إليها، وكذلك بالنسبة إلى الأردن، ذلك أن الدولة العبرية قد تجازف بأي شيء عدا أمنها في السياق الإقليمي السائد، هذه الاشتراطات والاعتبارات كانت جوهر الرؤية الإسرائيلية "للتهديدات الأمنية" حتى قبل تداعيات الخريطة الأمنية ـ السياسية الجديدة في الإقليم والمنطقة، وباتت هذه الرؤية أكثر ضرورة الآن أكثر مما كان عليه الأمر في وقت مضى.
هذه الرؤية التي تحدث عنها هيرتسوغ، كانت السبب الرئيسي وراء فشل الجهود الأميركية التي وصلت إلى طريق مسدود، وهي ذات الرؤية التي تجعل من العملية الاستيطانية المتسارعة بديلاً عن عملية تفاوضية تؤدي إلى الحل الدائم وفقاً لاتفاق أوسلو، من خلال ترجمته إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، ووفقاً لهذه الرؤية، لا حل على المستوى القريب أو البعيد، إلاّ بتغيير جوهري يطال هذه الرؤية من أساسها!!