على عجل قرأت المجموعة القصصية “خمسون ليلة وليلى“ للقاص الباذخ يسري الغول والتي كنت أنتظرها بفارغ الصبر. غصت في عمقها وتجولت بين دفتيها، انحبست أنفاسي زهاء ساعتين وكأنهما قرنين من الزمان، أو كأنني من أهل الكهف أو الآخرة، سحت مع ليالي يسري متنقلا بين غزة والقارتين الأوربية والأمريكيتين وما بينهما من عواصم ومدن ومحطات من خلال مفارقات ومقاربات مدهشة حد الذهول.
يسري في خمسينيته المطرزة بلياليه الغزية المضمخة بالدم والموسومة بالخوف والهجير جعل من المخيم حبر القلب الذي سال على أرصفة الألم فرسم المخيم ومدينة الظلام على صدر خريطة العالم ورسم العالم على رمل شاطئ المخيم ضمن رؤيته الخاصة في مجمل الحالة السياسية والإجتماعية وأسقطها في سرده القصصي من خلال إشارات لاذعة.
اليوم في الخمسين اليسرية فسر لي هذا البارع كيف أن مجموعته القصصية السابقة “الموتى يبعثون في غزة" فأنطق الميت، أخذنا إلى ما تحت التراب في صور بليغة ووظفها خير التوظيف المعرفي والدلالي، وبالفلسفة والأساطير والعقائد والأيدلوجيات قال ما قال وعزز النص القصصي بدقة واتقان.
يسري الغول قاص مميز ورائع عرف كيف يمكن أن يكون له طابعه القصصي الخاص ولونه الذي صبغه بالتفرد دون غيره من كتاب القصة القصيرة معتمدا بذلك على الحداثة وما بعدها وبالتجريب خير برهان.
خمسون ليلة وليلى عبارة عن خمسين دهشة ودهشة تملكتني حد الذهول وأنا غارق في ثنايا هذا النص القصصي المحكم ضمن خيط ونسق يجمعه في لوحة بنائية متكاملة ومتناسقة ومتوافقة مما جعل من مجموعته مجموعة سمينة قدمها في وجبة دسمة وثملة.
هنيئا لنا بهذا اليسري الغزي المدرار والمتعب من السفر والترحال بين الكلمات التي تحررت دون أن تغتالها الحرب أو تأسرها المحطات والموانئ والمطارات، وبورك هذا القلب الممتلئ بالمساحات البيضاء وسلم اليراع المغراد بالاندياحات في كل فضاء.