صوتت منظمة اليونيسكو، يوم الخميس 13 الشهر الجاري، على قرار يعتبر المسجد الأقصى وحائط البراق تراثاً إسلامياً خالصاً، ولا علاقة لليهود به.. القرار استخدم التسمية العربية الإسلامية للحائط الغربي للحرم وهي ساحة البراق. الأمر الذي أثار سخط الدوائر الإسرائيلية، حيث اعتبر نتنياهو القرار بمثابة "إنكار للتاريخ اليهودي"، كما زعمت الخارجية الإسرائيلية أن القرار "يشوه التاريخ ويطمس علاقة اليهود بأقدس مكان لديهم".
قرار "اليونيسكو" يدين الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات، ويصف إسرائيل بقوة الاحتلال، وفي طياته ينفي أي رابط تاريخي أو ديني لليهود بالمسجد الأقصى، ما يعني كشف زيف الرواية التوراتية حول "الهيكل" و"حائط المبكى". وهو أيضاً انتصار الضعيف صاحب رواية الحق على القوي صاحب رواية الباطل.
حائط البراق (أو حائط المبكى كما يسميه الإعلام الصهيوني) جزء من الحائط الغربي للحرم الشريف في القدس. بطول 50 متراً، وارتفاع 19 متراً، ويمتد من باب المغاربة جنوباً حتى المدرسة التنكزية شمالاً. وقد كان ادعاء اليهود ملكيته سبباً في اندلاع انتفاضة البراق في شهر آب سنة 1929، والتي بدأت بهجمات متبادلة بين العرب واليهود في القدس ثم امتدت في أنحاء عديدة من فلسطين، وحينها قمعت بريطانيا تلك الانتفاضة بقسوة، وقدمت للمحاكمة ما يزيد على ألف فلسطيني، وحكمت على 26 منهم بالإعدام، كما أدانت يهودياً واحداً كان شرطياً دخل على أسرة عربية في يافا مكونة من سبعة أشخاص فقتلهم جميعهم، لكنها لم تنفذ الإعدام إلا في ثلاثة فلسطينيين، هم: فؤاد حجازي، ومحمد جمجوم، وعطا الزير.
وعلى إثر تلك الأحداث أرسلت الحكومة البريطانية إلى فلسطين لجنة تحقيق عرفت باسم "لجنة شو"، والتي بدورها أوصت بإرسال لجنة دولية لتحديد حقوق العرب واليهود في حائط البراق. وقد وافقت عصبة الأمم على هذه التوصية وشكلت بموجبها لجنة من ثلاثة أعضاء هي السويد وسويسرا وأندونيسيا. وقد رفعت اللجنة تقريرها العام 1930، وخلصت فيه إلى استنتاجات حازت موافقة سلطة الانتداب البريطانية وعصبة الأمم معاً، فأصبح بذلك وثيقة دولية مهمة تثبت حق الشعب العربي الفلسطيني في حائط البراق. وأهم هذه الاستنتاجات: "تعود ملكية الحائط الغربي إلى المسلمين وحدهم، ولهم وحدهم الحق العيني فيه، لأنه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف الإسلامي". كما كانت بريطانيا قد اعترفت صراحة في كتابها الأبيض الذي أصدرته في تشرين الثاني 1928 بأن الحائط الغربي والمنطقة المجاورة له ملك للمسلمين خاصة.
قرار اليونيسكو الأخير يؤكد ملكية المسلمين للأقصى ومحيطه، ويعتبره جزءاً من التراث الإنساني الذي يجب صونه وحمايته، وبالتالي فإنه يقطع الطريق على الجهود الإسرائيلية لتهويده أو تقاسمه، كما فعلت في الحرم الإبراهيمي. وهو تأكيد لموقف اليونيسكو في الجلسة السابقة حيث اتخذت حينها قراراً مشابهاً كانت الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا قد صوتت لصالحه، ما دفع اللوبيات الصهيونية لافتعال أزمات دبلوماسية معها، وجعل فرنسا وبقية الدول الأوروبية تمتنع عن التصويت في الجلسة الأخيرة. ويخشى من أن تتمكن اللوبيات الصهيونية بمؤازرة الولايات المتحدة من تغيير صيغة القرار في الجلسة المقبلة والأخيرة للمجلس التنفيذي، والتي ستحسم الموضوع.
هذا القرار، بالإضافة لأهميته التاريخية، يؤكد أهمية الشرعية الدولية، وإمكانية تجنيدها لصالح القضية الفلسطينية، خاصة عندما تُحسن الدبلوماسية الفلسطينية والعربية التعامل معها. فالشرعية الدولية وإن كانت تعترف بإسرائيل ومترددة أو عاجزة عن مواجهة الاحتلال، وإلزامه بالانصياع لها؛ إلا أنها تبنت قرارات دولية كثيرة لصالح الفلسطينيين، من الممكن إحياؤها وتنشيطها، مثل قرار عودة اللاجئين 194، والقرارات التي تدعم حق تقرير المصير، وحق مقاومة الاحتلال، والإقرار بعدم شرعيته... وكلها قرارات تحتاج إلى توحيد الموقف الفلسطيني أولاً، ثم خوض نضال سياسي ودبلوماسي تدعمه وتشد من أزره مقاومة شعبية.
وكانت السلطة الوطنية وبدعم ومشاركة من المجموعة العربية قد تقدمت لليونيسكو بصيغة قرار يعترف بالقدس كمدينة مقدسة للديانات الثلاث، ولكن مع تأكيد أنه لا علاقة لليهود بالمسجد الأقصى أو حائط البراق. وكما هو متوقع، قامت إسرائيل بخطوات دبلوماسية مكثفة في محاولة لمنع صدور القرار، ومع أنها أخفقت في مسعاها، إلا أنها تمكنت من تغيير موقف عدد قليل من الدول. ما يؤكد مرة ثانية أن الشرعية الدولية ليس قدراً بيد أميركا وإسرائيل.
من الناحية التاريخية؛ ظل حائط البراق وقفاً إسلامياً منذ الفتح الإسلامي للبلاد، ولم يكن جزءاً من "الهيكل اليهودي" المزعوم، ولم يتخذه اليهود مكاناً للعبادة إلا بعد صدور وعد بلفور، ولكن تسامح المقدسيين هو الذي مكّن اليهود من الوقوف أمامه بداية بحجة البكاء على خراب هيكلهم المزعوم، ثم بمرور الزمن ادعوا أن حائط البراق من بقايا هذا "الهيكل".
وتستند إسرائيل في مزاعمها التاريخية بكل ما يتعلق بالحائط والهيكل، على أسطورة مملكة سليمان، وتدعي أن هذه المملكة أقيمت بالقدس في القرن العاشر ق.م.. وقد بحثت ونقبت بكل إمكانيتها عن أي شيء يدعم مزاعمها حول الهيكل، إلا أن أخفقت تماماً..
يقول المؤرخ الإسرائيلي "شلومو ساند": "بعد حرب حزيران 1967، صار بإمكان المنقبين الإسرائيليين البحث في الأرض المحتلة، وفي مقدمتها القدس، فراح المنقبون بلهفة كبيرة يركضون وراء حلمهم الجميل بالعثور على أدلة تاريخية تسند روايتهم، وقد شعروا بأن فرصتهم الذهبية قد حانت، وأنه بات في مقدورهم أن يلحموا الشعب الإسرائيلي القديم بوطنه التاريخي، وأن يبرهنوا على صدقية مزاعمهم في تدعيم حلقات روايتهم عن تاريخهم القديم، غير أن هذه الفرحة لم تحصل أبداً، وحماسهم بدأ يفتر شيئاً فشيئاً كلما تقدموا بالبحث، حتى أصيبوا بخيبة أمل كبيرة".
القرار مهم جداً، ويمكن البناء عليه، لكن يجب ألا نغرق بالوهم، فإسرائيل من أقوى دول المنطقة، ويجب ألا نتوقع أنه بمجرد كشف زيف وكذب روايتها، فإنها ستنهار؛ حيث إن إسرائيل أخذت تقلل من اعتمادها على الشرعيات التاريخية والدينية، وهي تستند في حقها في الوجود إلى قرار التقسيم، والذي يعد بمثابة شهادة ميلادها، وتعتمد على الدعم الأميركي غير المحدود.. وبالتالي، إجبارها على إنهاء الاحتلال يحتاج جهوداً جبارة وكفاحاً مريراً وتضحيات كثيرة.
مستوطنة تفضح زيف الرواية الإسرائيلية عن المقاومة
16 أكتوبر 2023