بعد مرور أكثر من تسع سنوات على وقوع الانقسام المستمر حتى اللحظة لم يعد يجدي الحديث الصريح أو المضمر، عن الجوانب القانونية، أو حتى عن حجم المسؤولية التي يتحملها هذا الطرف أو ذاك عن وقوع واستمرار الانقسام، فذلك قد أصبح في حكم التاريخ، أما الواقع فإنه يتحدث بلغة الوقائع المحددة.
في الوقائع المحددة وبعد مرور كل هذا الوقت لا سبيل البتة لأن يتم إقصاء هذا الطرف أو ذاك، إذ يمتلك كل طرف ما يكفي من القوة لأن يفشل في مسعاه إن أراد إقصاء الآخر، ما يدعو الكل للتسليم بأن كل ظاهرة سياسية بغض النظر عن مسمياتهم هي جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والوطني الفلسطيني وعليه ينبغي أن تقوم الحسابات.
يعرف الجميع أن مرحلة الثورة الفلسطينية المسلحة حتى توقيع اتفاقية اوسلو، شهدت العديد من محاولات إقصاء بعض الفصائل، لكن النتيجة الماثلة للعيان تشهد على أن كل تلك المحاولات فشلت وبقيت الفصائل صغيرها وكبيرها.
وفي الوقائع، أيضاً، تمتلك حركة حماس قوة شرعية صندوق الاقتراع حتى لو قيل ما قيل في المجلس التشريعي المعطل، لأن تلك الشرعية تشير إلى أنها تحوز على ثقة وتأييد من لدن قطاعات واسعة في الشعب الفلسطيني داخلاً وخارجاً.
وفوق هذا تمتلك حماس القوة العسكرية التي تندرج في اطار برنامج المقاومة مدعومة بقوة عقائدية يجعل منها حركة متماسكة ومنضبطة لسلطة القرار.
مقابل ذلك تمتلك حركة فتح شرعية من مستويات أخرى سواء من خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت في مطلع العام 2005، أو بشرعية وجودها على رأس منظمة التحرير الفلسطينية بالإضافة إلى ما تملكه من تأييد ودعم جماهيري واسع.
وتملك حركة فتح، أيضاً، شرعية التاريخ لكونها صاحبة الطلقة الأولى، وتحظى بشرعية عربية ودولية عبر المؤسسات الوطنية التي تقودها وهي تعمل على برنامج سياسي آخر غير الذي تتبناه وتعمل على أساسه حركة حماس.
لا يمكن إجراء مفاضلة بين الحركتين المتصارعتين الكبيرتين فكل منهما يستطيع الحديث عن إنجازات لبرنامجه لكن المحصلة هي أن كافة البرامج فشلت حتى الآن في تحقيق الإنجاز الوطني المنشود.
لا يستطيع المعترضون من الشعب، نخباً أو فصائل، أن يقيموا أحكامهم النهائية على الحركتين انطلاقاً من طبيعة النجاح أو الفشل في تحقيق كل منهما لبرنامجه فبغض النظر عن المواقف المؤيدة أو المنتقدة لهذا البرنامج أو ذاك، فإن النتيجة والاستنتاج هو أن الشعب الفلسطيني وقضيته يحتاج إلى قوة الحركتين.
نحتاج إذاً إلى حراك جدي، ومبادرات وطنية صادقة وحقيقية لإدارة حوار وطني جامع للاتفاق على استراتيجية وطنية موحدة تنفذها مؤسسة وإرادة فلسطينية موحدة، تنطلق هذه الاستراتيجية من حقيقة أن الحركة الوطنية وهي تسعى نحو التحرير لا تستطيع الاعتماد على برنامج المقاومة فقط أو برنامج العمل السياسي فقط وأن استمرار الانقسام من شأنه أن يضعف كل طرف، ويضعف رصيد وشرعية كل منهما.
فلنلاحظ مبدئياً أن فشل أو تأجيل إجراء الانتخابات المحلية وبغض النظر عن الأسباب والمتسبب، قد أدت إلى استمرار الهيئات غير الشرعية التي تدير البلديات، بما في ذلك الهيئات التي سبق انتخابها في الضفة قبل أكثر من أربع سنوات والتي أصبح حالها حال المجلس التشريعي والرئاسة، حتى لو مضى شهر واحد على استحقاق الانتخابات وفق القانون الأساسي.
وفي الواقع فإن محطة الانتخابات المحلية التي استبشر الكثيرون بأنها قد تشكل الخطوة الأولى نحو المصالحة يمكن البناء عليها، ان هذه المحطة تحولت إلى سبب لتعميق الانقسام، وتعميق أزمة الثقة بين الأطراف.
لقد شكلت تلك المحطة بروفة من غير المتوقع تكرارها، في ظل الانقسام سواء فيما يتعلق بالانتخابات البلدية أو التشريعية أو الرئاسية أو انتخابات المجلس الوطني.
لقد وضعت نتائج هذه البروفة الفاشلة حجراً كبيراً على كل الدعوات والمراهنات التي كانت تعتقد أن المصالحة يمكن أن تتجاوز الاتفاقيات من خلال الذهاب إلى الانتخابات، وبات على الجميع أن يفكر بطريقة واقعية في البحث عن مخارج من هذا الانقسام.
ويلاحظ المواطن الفلسطيني أن تداعيات فشل هذه البروفة تذهب في اتجاه تعميق الانقسام فالسلطة تفكر في تعديل قانون الانتخابات بحيث يتجنب الثغرات القانونية التي أدت إلى إسقاط القوائم.
تنظر حماس لمثل هذا الإجراء على أنه تفرد بالقرار لخدمة حركة فتح ما يعزز لديها موقف رفض أية انتخابات في ظل الظروف الراهنة.
من ناحية أخرى أوصت كتلة حماس البرلمانية في غزة، بإعادة الحياة لحكومة إسماعيل هنية، وتجاوز حكومة الوفاق الوطني التي لم تتمكن من القيام بمهماتها في قطاع غزة.
لاحظوا الارتدادات التي نجمت عن فشل بروفة الانتخابات والتي تصب كلها في اتجاه تعميق الانقسام، وإكمال عملية مأسسته، حتى لو لم تستجب قيادة حماس لتوصية كتلتها في التشريعي مع أن أعضاء هذه الكتلة هم من صلب قيادة الحركة.
وفي هذا السياق، أيضاً، لدى حماس في غزة الكثير من الخيارات إزاء التعامل مع الهيئات البلدية فهي ستسعى وراء إعادة تشكيلها عَبر إقامة شراكات وطنية مع فصائل أو كفاءات أو مؤسسات مجتمعية ومخاتير، لكنها إن لم تنجح في ذلك، فإنها ستعيد تشكيلها لأنه من غير المعقول أو الممكن أن تترك البلديات دون هيئات وطالما أن إجراء الانتخابات أمر مستبعد في ظل الوضع القائم.
هكذا تكون آليات إدامة وتعميق الانقسام أقوى وأكثر فاعلية من آليات وإرادة إنهائه فيما سيظل السؤال المعلّق: من يتحمّل المسؤولية ومتى؟