التطهير العرقي الذي كان

20161610213057
حجم الخط

يفحص المؤرخ الجدير استنتاجاته دوما. فاذا كان توصل الى استنتاج بان ما كتبه يحتاج الى إعادة تقدير فانه ملزم بان يواجه ذلك. ولكن مؤرخا قال في بداية طريقه ان اسرائيل تتحمل المسؤولية عن الهرب الجماعي للفلسطينيين في الـ 1948 ولاحقا غير اراءه لدرجة أنه اصبح عزيز اليمين الاستيطاني، فهو ظاهرة مثيرة للشفقة. اجتاز بيني موريس هذا الطريق. وهو يخون الواجبين المركزيين للمؤرخ: ان يكون واسع الأفق وأن يعرف الأدبيات البحثية الكثيرة التي لا تتعلق مباشرة بمجال بحثه، والا فانه سيشوه استنتاجاته السابقة بسبب أقانيم سياسية راهنة.
أقرت في القيادة القطرية للهاغناه في 10 آذار   1948 "الخطة د" التي بحثت في نية طرد أكبر قدر ممكن من العرب من أراضي الدولة اليهودية المستقبلية. وكتب موريس عنها في كتابه عن "حرب الاستقلال" (2010). وقضى بان الخطة أثارت خلافا تاريخيا، عندما ادعى المؤرخون المؤيدون للفلسطينيين بان هذه كانت خطة كبرى لطرد عرب البلاد. وبزعمه، فان فحصا دقيقا لصيغة الخطة يؤدي الى استنتاج مختلف.
استنتاج مختلف لمن؟ لباحثين خبراء في التطهير العرقي؟ لقانونيين انكبوا على البحث؟ لا، لموريس بالطبع. فهو لا يقبل تعريف التطهير العرقي، الذي نفذه اليهود في 1948. لعله كان "تطهيرا مصغرا" في اللد وفي الرملة. وربما ايضا مذبحة هامشية ما (دير ياسين) تسببت في فرار مفزوع للفلسطينيين. دعك، هذه بالضبط الظروف التي تؤدي الى تطهير عرقي. لو كان موريس يتكبد عناء الدراسة كما ينبغي بوثائق محكمة الجنايات الدولية في قضية يوغسلافيا، لفهم لماذا تثير أقواله السخرية في كل ندوة علمية جدية.
هكذا يقول المدعي العام في محاكمة ردوفان كردجتش، زعيم الصرب البوسنيين الذين ادين بالمسؤولية عن التطهر العرقي الذي ارتكب بحق المسلمين في البوسنة: "في التطهير العرقي انت تتصرف وكأنه في أرض إقليمية معينة لا يوجد اعضاء جماعة عرقية معينة. توجد مذبحة، ولكن ليس الجميع يذبحون، لان المذبحة تستهدف اخافة السكان. بشكل طبيعي الناس يخافون. وهم يحاولون الهرب، وفي نهاية المطاف ببساطة يغادرون، هم يختفون من المنطقة، أما بمبادرتهم أو من خلال الطرد. النساء يغتصبن. مرات عديدة توجد إبادة لنصب تمثل تواجد هؤلاء السكان، كالكنائس أو المساجد".
بالضبط مثلما في 1948: تعليمات مبطنة، تفاهمات صامتة، زرع الرعب في اوساط السكان الذين يراد بهم ان يفروا، تدمير الوجود المادي الذي خلفوه. في كتابه الاول عن نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين (1991) كتب موريس: "هجمات للهاغناه والجيش الاسرائيلي، أوامر بالطرد، الخوف من الهجمات وأعمال وحشية من جانب اليهود، غياب المساعدة من الجانب العربي واللجنة العربية العليا، احساس انعدام الوسيلة والترك للمصير، اوامر من المؤسسات والقادة العرب للخروج والاخلاء. في معظم الحالات كان السبب غير المباشر الحاسم للفرار – هجمة من الهاغناه، الايتسل، ليحي او الجيش الاسرائيلي، او خوف السكان من مثل هذه الهجمة".
قبل نحو 15 سنة غير موريس رأيه. في كتابه "اصلاح الخطأ" (2000) قال ان "معظم حالات الترك (للفلسطينيين، د. ب) من معظم الاماكن وفي معظم الوقت أعدتها الى هجمات القوات اليهودية. احيانا يتعين على المؤرخ ان يصلح الخطأ". يجدر بنا أن نرفع القبعة امام المؤرخ الذي يعترف بالخطأ. ولكن الاستقامة المهنية لموريس تقع تحت الاختبار في ضوء ما قاله لاري شفيت ("هآرتس" 5/1/2004): "لا اعتقد أن اعمال الطرد في 1948 كانت جرائم حرب... اعتقد انه (بن غوريون، د.ب) اخطأ خطأ تاريخيا جسيما في 1948... في اثناء الحرب ارتعدت فرائصه. في نهاية المطاف فشل... اذا كان قد طرد يحتمل ان تكون هناك حاجة للقيام بمهامه كاملة".
في نفس الوقت يدعي موريس، بان بن غوريون "لم يصدر أبدا أمرا بطرد العرب". بالفعل، لم يتوفر أي أمر مكتوب كهذا. وسيتساءل القارئ: اذن، نعم هل كان أمر بالطرد، أم ربما كان طرد بلا أمر؟ ولعله كان طردا جماهيريا، ولكن لم يكن كاملا، وعليه فان هذا ليس تطهيرا عرقيا؟ وهل يأسف موريس على أنه لم يصدر أمر باستكمال التطهير بكامله؟ من حظ موريس انه لا يعنى بالبحث في الكارثة. فقد كان بوسعه ان يدعي ان هتلر لم يأمر "بالحل النهائي"، إذ من المعروف انه لم يتوفر أبدا امر مكتوب منه بقتل يهود اوروبا.
لم تكن أعمال الطرد جرائم حرب، يقول موريس، لان العرب هم الذين بدؤوا بالحرب. بمعنى أن مئات آلاف المواطنين الابرياء، الذين ينتمون الى الطرف الذي بدأ المعارك، يجب أن يكونوا مطرودين. يبدو أن موريس كان سيوافق على ان الجينوسايد (قتل الشعب) الذي قام به الألمان في هرارو في 1904 – 1908 كان مبررا لان الهرارو بدؤوا بالتمرد ضد الاستعمار الألماني في ناميبيا.
موريس محق في شيء واحد: التفاهمات بانه ينبغي طرد العرب لم تتحقق بكاملها. كان هناك قادة اطاعوا بحرص، وكان آخرون لم يحرصوا. هذا بالضبط هو السبب لان تبقى في 1949 نحو 160 الف عربي في أراضي دولة اسرائيل. بالضبط مثلما بقي في تركيا عشرات آلاف الارمن بعد الحرب العالمية الاولى ممن لم يطردوا أو يذبحوا بسبب وجود موظفين لم يحرصوا على تنفيذ الاوامر. من حظنا انه كان في 1948 قادة في الجيش الاسرائيلي امتنعوا عن تنفيذ ما عرفوا بان بوسعهم ان يفعلوه دون أن يحاسبوا عليه. لولاهم، لكانت جريمة الحرب التي ارتكبتها اسرائيل أكبر بكثير.