عن نـوبـل والأدب الرفـيـع

حسن خضر
حجم الخط

لا أعتقد أن بوب ديلان يستحق نوبل للآداب. وإذا كان ثمة من ضرورة للمقارنة فإن مارغريت آتوود، الكندية، وفيليب روث، الأميركي، أكثر جدارة، وكذلك أدونيس، السوري (إذا أردنا وضع بعض الكستناء الساخنة على طبق عربي فقير).
ولكن بماذا ولماذا، يصل شخصٌ إلى حكم كهذا؟
هذا السؤال هو مربط الفرس. فمعيار ماذا ولماذا يُستمد من ميراث لجنة نوبل للآداب، فهي في سوق، وبزنس، وذهن، منتجي ومستهلكي الأدب، أعلى وأهم مرجعيات الثقافة والأدب الرفيع. وهي، بهذا المعنى، أيضاً، سلطة تصنع المعايير، وتحكم وتتحكّم بالذائقة العامة، في أربعة أركان الأرض، على مدار ما يزيد على قرن من الزمان. وفي بلدان مختلفة نشأت أكاديميات ولجان مشابهة، تأثرت بالنموذج الأصلي، وحاولت محاكاته، فأسهمت في تعزيز سلطته، وتكريس معاييره.
وفي هذا السياق تكرّست فنون الرواية والشعر بوصفها من عيون الأدب الرفيع. وتكرّس الروائيون والشعراء بوصفهم أبرز ممثلي الثقافة في العالم. فالغالبية العظمى من الفائزين بنوبل للآداب، منذ مطلع القرن الماضي، تتكون من روائيين وشعراء، وعدد أقل من كتّاب المسرح. (فاز بنوبل فيلسوف واحد هو برتراند رسل، ومؤرخ كلاسيكي واحد هو ثيودور مومسن، و"خطيب" وسياسي واحد هو وينستون تشرشل). ومع ذلك، فكرة الثقافة الرفيعة (وحتى فكرة الثقافة نفسها) ومكانة الرواية فيها، على نحو خاص، ظاهرة جديدة تماماً في التاريخ، ولا تعود جذورها إلى أبعد من قرنين من الزمان.
فعندما نشر دانيال ديفو، مؤسس الرواية في التقليد الأدبي الإنكليزي، رواياته في القرن الثامن عشر، مسلسلة في الجرائد، لم يأخذه، أو يأخذها أحد على محمل الجد، بوصفها جزءاً من ثقافة رفيعة، بل عوملت كنوع مبتذل من التسلية يحظى باهتمام نساء الأرستقراطية، والبرجوازية الصاعدة. ولم تتمكن الرواية من نيل "الاحترام" حتى أواخر القرن التاسع عشر.
وفي التقليد الثقافي العربي، لم يكن ليخطر على بال أحد أن "ألف ليلة وليلة" تنتمي إلى جنس أعلى أو أبعد من الثقافة الشعبية المذمومة، في نظر منتجي الثقافة الرفيعة من العرب، حتى أواسط القرن العشرين، ولم يكن نصيب قصائد الشعراء الرومانسيين في إنكلترا، الذين ظهروا في أواخر القرن الثامن عشر، وقطعوا مع التقليد الشعري الكلاسيكي الأوروبي، أفضل حالاً، فقد عوملت كمصدر تهديد للثقافة الرفيعة. وبالعودة إلى التقليد الثقافي العربي (الذي يتأخر، عادة، في محاكاة النموذج الغربي) نذكر موقف عبّاس محمود العقّاد، رئيس لجنة الشعر، في المجلس الأعلى للفنون والآداب، في مصر، الذي أحال قصائد الشعر الحديث إلى لجنة النثر في خمسينيات القرن الماضي.
لا يجادل أحد حول مركزية الشعر الحديث، والرواية، في ما يُعرف ويُعرّف كأدب رفيع هذه الأيام. ولكن تاريخ هذه المركزية يدل على تبدّل دائم في مفهوم الثقافة الرفيعة، وما ينتمي إليها، من أجناس أدبية. أجدني في هذا المضمار أقرب إلى تقسيمات نورثرب فراي. والواقع أن احتلال الأدب لمكانة رفيعة في الثقافة كان مدار تساؤل من جانب ميشيل فوكو، أحد كبار نقّاد الثقافة الغربية في القرن العشرين، فالأدب، كما يرى، لا يجاري العلوم الإنسانية في إنتاج المعرفة، وفائدته العملية أقل بكثير من علوم الطب والرياضيات، مثلاً.  
هذه مسألة عويصة. والمهم هو أن نحفظ في الذهن حقائق من نوع أن التبدّل في مفهوم الثقافة الرفيعة، وما ينتمي إليها، من أجناس أدبية، وثيق الصلة بما يطرأ على المجتمعات من تحوّلات اقتصادية، وسياسية، وتقنيات واكتشافات علمية جديدة.
فلا إمكانية لفهم معنى الثقافة، في التاريخ الحديث، دون العودة إلى ظهور الطباعة. ولا إمكانية لفهم ذيوع الرواية دون العودة إلى ظهور الصحف، وصعود البرجوازية كطبقة اجتماعية جديدة. ولا إمكانية لفهم القطيعة مع تقاليد الشعرية الأوروبية، بمختلف لغاتها القومية، دون العودة إلى الظاهرة القومية، والثورة الصناعية. ولا إمكانية، بالقدر نفسه، لفهم تجليات هذه الأشياء كلها في التقليد الثقافي العربي خارج إطار العلاقة بين المتروبول الكولونيالي والمستعمرات.
وما علاقة هذا كله بديلان؟
نحن أمام ظاهرة يصعب نقلها من لغة إلى أخرى، كما يحدث مع الروايات والقصائد، فلا إمكانية للفصل بين النصوص، والموسيقى المرافقة، وطريقته في الأداء. ويصعب التفاعل بين مستهلك مُحتمل، وبين نصوصه، مجرّدة من الموسيقى والصوت. وقد يُقال: إن الموسيقى لغة كونية، ولكن إنتاج ديلان لا يتكوّن من موسيقى فقط، وموسيقاه بلا معنى مجرّدة من صوته وكلماته. وهذه كلها ليست متاحة لكل شخص لا يعرف الإنكليزية، فهل في هذا كله ما يمثل أدباً رفيعاً يخاطب الإنسان في كل مكان؟ وما هو الأدب، إذاً؟
لجنة نوبل تحاول إعادة تعريف معنى الأدب والثقافة الرفيعة، وهذا ما لا يمكن فهمه خارج صعود السمعي والبصري، وتقلّص المكتوب والمنشور، في زمن التكنولوجيا الرقمية، والإنترنت، والطفرة في وسائل الاتصال، وانهيار الحواجز التقليدية بين فنون مختلفة.
أعربت السكرتيرة الدائمة لنوبل، في كلامها عن ديلان، عن شيء كهذا بالقول: إن "الظروف تغيّرت". والواقع هو أن تغيّر الظروف يسوّغ لبعض ممثلي الثقافة الرفيعة التنبؤ بموت الثقافة نفسها. فهذه، مثلاً، خلاصة ماريو فارغاس يوسا، الروائي والفائز بنوبل للآداب، الذي نشر كتاباً، في أواخر العام الماضي، بعنوان "موت الثقافة: مقالات في الفرجة والمجتمع"، نعى فيه موت الثقافة الرفيعة، وصعود ثقافة الفرجة.
في ظاهرة ديلان كل مقوّمات ثقافة الفرجة. وليس ثمة ما يبرر نعي الثقافة بالمطلق، بل التذكير بحقيقة أن الرفيع منها يقبل التغيير والتبديل، وأن الثقافة الرفيعة، كما عرفناها، ليست عابرة للقرون والأجيال.