قبل أيام، مات «يوسف».. سقط مرة واحدة «جثمانا باردا» على رصيف محايد، في زقاق منسي.. «يوسف»، الذي ظل يذرع شوارع رام الله جيئة وذهابا لسنوات طويلة، انتهت قصته الصاخبة بصمت.. وكالعادة، ما أن مات، حتى انتبه إليه الناس، وامتلأت صفحات «الفيسبوك» بصوره، وبالكلمات الغاضبة التي تصب اللعنات على من أهملوه، وتركوه لمصيره يواجه البرد والجوع، وحيداً بلا مأوى..
بالتأكيد، «يوسف» ليس الأول، ولن يكون الأخير، في كل المجتمعات توجد حالات شبيهة، وربما أكثر بؤسا: أطفال مشردون، متسولون، أيتام متروكون لوحدهم، أرامل بلا معيل، ذوو احتياجات خاصة بلا رعاية، طاعنون في السن تخلى عنهم أولادهم، أناس يعيشون على هامش الحياة، مدمنون وفاقدو الأهلية بلا مأوى.
مثلي، مثل أغلب الناس «الطيبين»، نتأثر بشدة حين نشاهد صورة طفل مشرد، أو عجوز قست عليه الأيام، وقد نبكي عندما نسمع قصة أسرة نازحة، ونتخيل هول المآسي التي تكبدتها... ولكن، الغريب أننا حين نصادف أياً من هذه الحالات وجها لوجه، لا نتأثر، ولا نفعل شيئا مما هددنا وتوعدنا بفعله، حين رأيناهم على شاشة الحاسوب أو التلفاز!!
ومثلي، مثل أغلب الناس «الطيبين» نتأثر بشدة، ونحزن، ونشعر بتأنيب الضمير حين نقرأ لوماً أو تقريعا كتبه أحدهم تعليقا على مأساة مشرد، أو فقير بات خائفا وجائعا.. ونحسُّ بأننا نحن السبب.. ولكن، بعد أن أرهقنا هذا الضمير، بدأنا نطرح أسئلة أكثر قربا من الواقع: من يتحمل مسؤولية الشاب العاطل عن العمل، والذي دفعه اليأس لحافة الانتحار؟ من يتحمل مسؤولية طاعن في السن عاش آخر سني حياته ينام في العراء، وتحت الشجر، وفي بيوت الدرج، وفي المنازل المهجورة؟ من يتحمل مسؤولية أرملة، غير متعلمة، تتسول لجمع ثمن عشاء أطفالها؟ الموضوع ليس بحثا عن راحة الضمير، والتخلص من نداءاته المزعجة.. الموضوع هو طرح الأسئلة الصحيحة، تمهيدا لإيجاد الحلول السليمة..
هل المطلوب مني، ومن أي مواطن حين يداهمه طفل يبيع العلكة عند الإشارة الضوئية، أن يركن سيارته على اليمين، ليأخذ بيد الطفل إلى بيته، ثم يبدأ بالتفتيش عن مسكن لائق له؟! هل المطلوب منا حين نصادف متسولا أن نسأله عن حقيقة وضعه، ونتأكد فعلا أنه بحاجة للمساعدة، ثم نقدم له ما نستطيع تقديمه؟ هل المطلوب منا إذا طلب أحدهم مساعدة لعلاج ابنته من السرطان، أن نشكل لجنة طبية لنتأكد من صحة أقواله، ثم نبدأ بجمع التبرعات! هذا طرح غير واقعي، وغير معقول، ولا يجوز أن نلوم أحدا على تقصيره بشيء هو أصلا ليس من اختصاصه، وليس بمقدوره فعله.. وطبعا هذا لا يمنع أن نشعر بالتضامن مع هؤلاء، بل من العار ألّا تظهر منا مشاعر الشفقة والحزن.. ومن العار أن نسيء معاملتهم، أو نقلل من إنسانيتهم، أو نتجاهلهم.. ولا يمنع أيضا تنظيم مبادرات خلاقة للتكافل الاجتماعي..
أحيانا نصادف سيدة على قارعة الطريق وعلى يدها رضيع، وكأنها تشويه تحت الشمس اللاهبة، لتستدر مشاعر الشفقة من المارة، فيتصدقوا عليها بدراهم قليلة.. حينها تتعارض مشاعرنا على نحو مربك، نحتار ماذا نفعل: إذا منحناها بعض النقود، نساعدها على استمرارها بمهنة التسول، نكافئها على تعذيبها لطفلٍ رضيع لا ذنب له، نشجعها على مسلك سلبي مشين.. وإذا تركناها ومضينا في طريقنا، ستعذبنا ضمائرنا؛ فقد تكون هذه السيدة بالفعل بحاجة لمساعدة، قد تكون بالفعل عاجزة عن إيجاد عمل.. أحيانا، نشعر بغضب شديد على معاناة هذا الطفل، وعلى قسوة أمه (قد لا تكون أمه) ولكن في جميع الحالات هذا الطفل بريء.. من الصعب على المواطن العادي أن يتحقق من وضع المتسولة، ومن الصعب عليه إيجاد حل لها، ومن جهة ثانية لا يجوز أن نقف سلبيين أمام مأساة طفل نراه يتعذب أمامنا.. السؤال المنطقي هنا: أين دور منظمات المجتمع المدني، والجمعيات الخيرية، ولجان الزكاة؟ والسؤال الأهم: أين مؤسسات الدولة، ووزارة الشؤون الاجتماعية، ألا يجدر بها أن تدرس هذه الحالات، فتساعد من يحتاج المساعدة، وتعاقب من يتحايل على الناس ويخدع مشاعرها ويبتز عواطفها.. يُقال أن أغلب هذه الحالات لا تكون بمفردها، غالبا يكون وراءها شخص ما، أشبه برئيس العصابة، يدير شبكة من المتسولين، ويشغلهم لحسابه.. هل تعجز الدولة وأجهزتها الأمنية عن كشف مثل هذه الحالات؟! لو كانت قيمة الإنسان مهمة في ثقافتنا لتعاملت الدولة مع هذه الحالات كما تتعامل مع الحالات التي تهدد أمن النظام..
وإلى جانب مسؤولية الحكومة، تأتي المسؤولية المجتمعية.. ومجتمعاتنا طالما تغنّت بصلة الرحم، ومساعدة الملهوف، ودفء العلاقات الإنسانية، والتكافل الاجتماعي، وعلاقات القربى، ومسؤولية العشيرة.... مجتمعنا صغير، وحارتنا ضيقة، ونعرف بعضنا البعض.. بمعنى أن كل حالة تستحق المساعدة تحيط بها شبكة من العلاقات الاجتماعية: أهل، أقارب، جيران، عشيرة، قرية، مخيم، حارة.. كيف يختفي هؤلاء فجأة، أمام الحالات الإنسانية الضعيفة؟! ولماذا يتخلون عن واجباتهم تجاهها بكل خفة؟ ولماذا يظهرون فجأة، وبكل قوة وشراسة إذا سمعوا عن فتاة أحبت شابا، أو حتى سمعوا عن شُبهة علاقة!! حينها يتكاتفون كلهم ويخرجون من كل صوب وحدب (لقتلها طبعا) والتواطؤ مع قاتلها!! أما لو نامت نفس الفتاة جائعة، وفي البرد، فلن يهتم لها أحد!!
في سياق متصل، كثيرا ما نسمع عن مريض يكلف علاجه ما هو فوق طاقته، أو مُقعد يحتاج كرسيا، أو طالب فقير لا يستطيع والده دفع رسوم الجامعة، أو أسرة تهدّم بيتها، أو من يحتاج للعلاج في الخارج... لماذا يضطر هؤلاء وغيرهم لطلب مساعدة من الرئيس، ومناشدته عبر وسائل الإعلام؟ ألا يجدر أن تكون هناك مؤسسات خاصة تتابع مثل هذه الحالات، وفق نظام معين، لا يحتاج فيه المواطن للواسطة، ولا لاتباع طرق التفافية، أو فضح نفسه على الملأ.
متى ستصبح قيمة الإنسان، وكرامته، واحترامه، وحقه في العيش الكريم في صُلب ثقافتنا، وعلى رأس أولوياتنا؟