تلقت إسرائيل صفعة قوية مع تصويت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة الـ»يونسكو” لصالح قرارين يؤكدان «الحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني وطابعه المميز في القدس الشرقية» واعتبار المسجد الأقصى وكامل الحرم الشريف موقعاً إسلامياً مقدساً ومخصصاً للعبادة، مؤكدا أن تلة باب المغاربة هي جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى، ويرفض الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب. وكان رد الفعل الإسرائيلي هستيرياً بدأ بالهجوم على اليونسكو التي تنفي صلة شعب إسرائيل بالحرم القدسي وانتهى بفرض مقاطعة على المنظمة الدولية.
قرار اليونسكو في الواقع هو تأكيد على قرارات دولية سابقة بما فيها قرارات سلطات الانتداب البريطانية منذ العام 1930 في أعقاب ثورة البراق عام 1929 ولجنة التحقيق البريطانية التي شكلت آنذاك، التي أكدت على أن حائط البراق «الحائط الغربي» للحرم هو ملك إسلامي خالص ولا حق لغير المسلمين فيه. ومنذ ذلك التاريخ وحتى عام 1967 أي حتى احتلال إسرائيل للقدس الشرقية لم يتغير شيء في المكان.
إسرائيل لا تقر بالحقائق التاريخية المثبتة وحاولت على مر السنين أن تجد ما يثبت عكس ذلك عبر الحفريات التي استمرت منذ الاحتلال وحتى يومنا هذا، والتنقيب الذي لم ينقطع، ولكنها لم تنجح في إيجاد أي دليل يثبت بأن الهيكل اليهودي كان في مكان الأقصى أو في أي جزء من الحرم القدسي أو تحته. وحتى علماء التاريخ الإسرائيليون أقروا بأن الرواية التوراتية لا تصلح للتأريخ ولا يمكن الاعتماد عليها لصياغة تاريخ المنطقة. وفي هذا السياق يقول البروفيسور زئيف هرتسوغ المحاضر في جامعة تل أبيب «إن سنوات السبي الطويلة للشعب اليهودي في مصر، والهروب الخارق بقيادة موسى عبر البحر الأحمر، ومكوثهم أربعين عاماً هي سنوات التيه في صحراء سيناء، والتصديق على وعد الرب للشعب اليهودي على جبل طور في سيناء، وصولاً إلى غزو أرض الميعاد، كل هذه القصة مجرد أسطورة، هذه هي الخلاصة التي توصل إليها هرتسوغ، الذي يضيف: «لم يكن بنو إسرائيل في مصر، وما يذكر عن ذلك هو إعادة تركيب لتاريخ لم يحدث مطلقاً». وينفي هرتسوغ وجود التوحيد قبل القرن العاشر قبل الميلاد حيث كان لليهود إله اسمه «يهوه» وكانت له زوجة اسمها «عشيرة» وبدؤوا بعبادة الإله الواحد في القرن العاشر قبل الميلاد وليس على جبل طور في سيناء. وهذه العبارات نشرها في صحيفة «هآرتس» في عام 1999. (ميشيل هوبينك، يو. أس. تودي 16/7/2014).
نحن لا نناقش وجود اليهود في فلسطين في غابر الزمان، ولا في حقهم في العبادة حتى لو كانت روايتهم للتاريخ مستندة إلى أساطير، بما في ذلك الصلاة في باحة البراق، ولكن أن يزوّروا التاريخ لسلب حق الفلسطينيين المسلمين لحقهم في الأقصى ولسيطرتهم على القدس الشرقية بادعاء الحق الديني والتاريخي فهذا مرفوض. من هنا تأتي أهمية قرار منظمة اليونسكو، حول الحق الفلسطيني في الحرم القدسي.
الفلسطينيون كانوا مرنين في البحث عن حلول لمسألة القدس، ولكنهم لا يتنازلون عن حقوقهم التاريخية والدينية. فهم يقبلون أن تبقى المدينة مفتوحة لكل المؤمنين من كل الديانات في أي حل سياسي للمسألة قائم أساساً على إنهاء الاحتلال. والمشكلة الجوهرية تكمن في إصرار إسرائيل على ضم القدس وإبقائها موحدة عاصمة مزعومة لإسرائيل خلافاً لما يجمع عليه العالم وتقره الشرعية الدولية التي لا تعترف لإسرائيل بضم القدس ولا بالاستيطان فيها وتهويدها وتغيير معالمها الإسلامية والمسيحية.
والمشكلة الحقيقية التي نواجهها اليوم هي الجهر برغبة فئات إسرائيلية بالاستيلاء على الأقصى وهدمه وبناء الهيكل اليهودي مكانه، على الرغم من أن هيئة الحاخامات الأصولية جميعها ترفض فكرة صلاة اليهود في باحة الأقصى على اعتبار أنه لو كان صحيحاً مكان الهيكل في هذه البقعة فهي من أطهر بقع الأرض ولا يجوز لليهود أن يدنسوها. كما أن الديانة اليهودية تؤمن بأن الهيكل لا يبنى بيد البشر وإنما ينزل من السماء كما هو في الزمان والمكان الذي يقرره الله، وبالتالي ادعاء الجماعات اليهودية المتطرفة يتناقض مع الدين والمعتقد. وهو سياسي بامتياز للسيطرة على الأراضي المحتلة والبقاء فيها ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية. إذاً نحن نواجه رواية احتلالية لتبرير الاحتلال ومصادرة حقوق الشعب الفلسطيني أكثر من كونها رواية تاريخية أو حتى دينية.
وصدور قرار اليونسكو ليس نهاية المطاف، فإسرائيل رفضت عشرات القرارات لهذه المنظمة الدولية وللجمعية العامة ومجلس الأمن التابعين للأمم المتحدة، ولم تتوقف لحظة عن محاولة تغيير الحقائق على الأرض. ولا يردعها مثل هذا الموقف الدولي الذي ينتصر للحقيقة والتاريخ. ولكن كل قرار من هذا القبيل يحشر إسرائيل في زاوية المحتل والمعتدي ويضعها في تناقض مع المجتمع الدولي والقوانين والشرائع والقرارات الأممية التي تنظم العلاقة بين الشعوب والدول. ولا تزال الطريق طويلة حتى نصل إلى إنهاء الاحتلال واعتراف إسرائيل الكامل بحقوقنا.