منذ عامين ومدينة الموصل العراقية التي تعتبر واحدة من المدن الرئيسية في البلاد، وهي في قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف اختصاراً بداعش، ومنذ ذلك الوقت والمدينة تمثل احد مقرات ثلاثة للتنظيم الذي سيطر على مساحة تبلغ نحو ثمانين ألف كيلو متر مربع من الأراضي العراقية والسورية، أي انه سيطر فعلياً على مساحة تقترب من مساحة الأردن، وحيث أن الموصل تقع على مفترق الطرق، وبين حدود مثلث التداخل العرقي / الطائفي في العراق، لذا فان احتلالها قبل عامين من قبل داعش مثّل انطلاقة خطيرة للتنظيم، وأطلقه كقوة إقليمية، دفعت العالم لتشكيل قوات دولية لمحاربته، فيما سيمثل تحريرها من قبضته، بدء المنحنى العكسي، أي بدء نهاية التنظيم، وفعليا خروجه من العراق، خاصة بعد أن خرج في أيار الماضي، من الفلوجة التي كانت مع الموصل والرقة تمثل مقرات التنظيم الرئيسية.
منذ البداية، ورغم أن داعش اعتبرت خليفة القاعدة، التي تلاشت بعد مصرع أسامة بن لادن، إلا أن داعش انحصر في الإقليم، ورغم أن أكثر من جماعة سياسية بايعته على الخلافة، إلا أن عنوان التنظيم ظل محصورا في الهلال الخصيب، وفي الوقت ذاته شكل مفارقة عجيبة، فرغم أن الاقتتال الداخلي محتدم في سورية بين النظام ومعارضيه، ظهر داعش كما لو كان غير معني، فهو انتشر في الشمال / الشرقي من سورية، إضافة لشمال / غربي العراق، في مناطق متصلة، لكنها داخلية، كما هو حال العديد من دول آسيا الوسطى، أو بعض دول أوروبا الشرقية، أو حتى بعض الدول الأفريقية، أي أنه ظل بعيدا عن الاتصال الخارجي عبر البحار أو المحيطات، لكن ذلك لم يعن شيئا مهما، ذلك أن التنظيم لم يكن قد أعلن بعد انتهائه من مشروعه، بالسيطرة على مساحة دولة إقليمية، وعلى بضعة ملايين من السكان، كما انه وجد تعويضا في احتواء تلك المنطقة على النفط الذي مول به «دولته».
ورغم أن التنظيم لم يمتلك مقاتلين بحجم جيش دولة إقليمية، بل انه بدأ ببضعة آلاف من المقاتلين، إلا أن تعقيدات وتداخلات الصراع الإقليمي / الدولي لعبت دورا مهما في تصاعده وقوته، ومن ثم سيطرته على كل تلك المناطق، التي لم يحقق مثلها ولا أي تنظيم « جهادي « ولا حتى القاعدة، التي كان حليفها طالبان يحكم أفغانستان وخسر الحكم بسبب ذلك التحالف.
ويمكن القول بان داعش احتل كل تلك المناطق بسهولة قياسية، فالنظام السوري مثلا رأى في بداية الحرب مهمته الرئيسية في الاحتفاظ بالعاصمة، لذا لم يرتعب من سقوط الأطراف، بسيطرة المعارضة على درعا، حلب، أما الشمال / الشرقي، فرأى في سيطرة داعش عليه تحديا للمعارضة وليس لدمشق، حيث فعلا كانت داعش تشن الحرب على الجيش الحر وعلى جبهة النصرة وتقتتل معهما، وتأخذ منهما المناطق التي يكونان قد حرراها من النظام.
المهم أن التحضير لمعركة الموصل، والتي تعتبر بالنسبة لبغداد إخراجا لداعش تماما من العراق بدأت منذ أشهر، فيما ستتجاوز تكلفة المعركة المليار دولار تضاف إلى نحو 8 مليارات دولار تكلفة نحو 12 ألف طلعة جوية نفذها سلاح الجو الأميركي على داعش خلال عامين، وحشد نحو مئة ألف مقاتل من الجيشين العراقي والكردي، إضافة لميليشيات الحشد الشعبي، وإسناد قوات التحالف الدولي / الأميركي بالجو والبر، لمقاتلة نحو خمسة آلاف مقاتل داعشي فقط !
هذا يظهر حجم الاستعراض الرسمي، ويظهر مستوى «المبالغة» في تصوير خطر داعش، في الوقت نفسه يظهر وكأن ما يحدث في الإقليم أشبه بمسرحية، تعيد إلى الأذهان، بعض فصول الحرب الباردة، حيث نرى اهتمام واشنطن بمقاتلة داعش في العراق، وعدم إظهار الأمر ذاته فيما يخص وجود داعش في سورية، أو قيادة واشنطن لمعركة «تحرير» الموصل من داعش، لصالح حليفيها حكومة بغداد الشيعية وحكومة أربيل الكردية، بالتوازي مع قيادة موسكو لمعركة «تحرير» حلب، حيث لا تظهر موسكو أي اهتمام بما يحدث في الموصل ولا في العراق كله.
تتلازم إذا معركتا الموصل وحلب بقيادة قطبي السياسة الدولية، واشنطن وموسكو، كما لو كنا ما زلنا نعيش ظلال الحرب الباردة، حيث كان تقدم أميركا في موقع ما، يقابله تقدم روسي أو سوفياتي في مكان آخر من العالم !
السؤال الجوهري هو أين العرب من كل هذا، وهناك تفاصيل لا حصر لها، من نمط أن المليشيات المتطرفة ليست قصرا على العرب / السنة، فهناك من هم على شاكلة داعش من العرب / الشيعة، الحشد الشعبي، حيث أن أخطر ما في الأمر هو ما بعد المعركة، التي يقدر أن تستمر شهرين، أي حتى فصل الشتاء، وربما كان اختيار التوقيت مقصودا، خاصة مع إجراء الانتخابات الأميركية، حيث تقدر أوساط الأمم المتحدة تهجير نحو مليون مدني من الموصل، جلّهم عرب / سنة، يضافون لنحو نصف مليون كانوا قد هربوا منها عام 2014، وكان ظهور داعش في العراق عام 2014 قد تسبب في تهجير نحو 10 % من سكان العراق، إضافة لاحتمال إقدام الحشد الشعبي على ارتكاب مجازر تطهير عرقي، تفسر مشاركته في المعركة، وهذا يظهر هدفا خفيا للمعركة، يصب في خانة استمرار الفصل الطائفي في المنطقة.
مناشدة بغداد لحليفها الأميركي بعدم السماح لداعش بالهرب من الموصل إلى الرقة، تضاف إلى تحذيرات موسكو في السياق ذاته، فيما يظهر غض نظر قوات التحالف الغربي عن مواكب داعش الهاربة للرقة مستوى وطبيعة اللعبة السياسية التي تديرها واشنطن وموسكو، بالتحالف مع الدول الإقليمية المركزية غير العربية : إيران، تركيا وإسرائيل. ولو كان هناك أدنى شك بأنهم يخوضون حروبا من اجل المواطنين العرب، لقلنا بأنه يمكنهم فقط صرف المليارات التي صرفت على الحرب ضمن برامج التمنية، لتختفي كل مظاهر التطرف والإرهاب من المنطقة، وليعم السلام والرخاء ويعيش الجميع في وئام.
بلاد العرب أوطاني وأحزاني
17 سبتمبر 2023