المتتبع للإعلام الفلسطيني يلاحظ حالة الاستقطاب الكبيرة التي تسيطر على سياساتنا التحريرية سواء في وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو المقروءة.
في الأشهر الأخيرة نلاحظ بشكل واضح أننا فتحنا أكثر من «جبهة» إعلامية، غالباً ما أتت كرد فعل على آراء أو مقالات لكتاب يعارضون السياسة الفلسطينية أو النظام السياسي الفلسطيني بشكل عام.
وعلى الرغم من أن الكتاب المعارضين يحاولون إطلاق نيرانهم في مختلف الاتجاهات مع التركيز على النخب الفلسطينية، فإن محاولات بعض مؤسساتنا الإعلامية فتح جبهة مواجهة كرد على ذلك أو دفاع عما يطرح من قضايا، تكون غالباً غير موفقة، وليست في وقتها أو إطارها الصحيحين.
إن رد الفعل ربما في بعض الأحيان يكون أخطر من الفعل نفسه، وقد يوصلنا إلى مأزق في التعامل مع قضايا إعلامية جماهيرية.
خير دليل على ذلك ما حدث عندما نشرت الرسوم المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) في الدنمارك في صحيفة شبه مجهولة ليس لها جمهور، فجاء من بيننا من ينبش عش «الدبابير»، وبردود فعلنا، جعلنا من هذه الصحيفة المجهولة ورسام كاريكاتيرها أيقونات تاريخية، وبتسرعنا وتهورنا خلقنا من شيء لا يستحق أن يذكر رمزاً عالمياً.. ثم وجدنا أنفسنا جميعاً في أزمة خانقة.. والسبب أننا فتحنا جبهة إعلامية في الأساس ما كان يجب أن تفتح، لأن الصحيح أن تبقى وسيلة الإعلام هذه مغمورة ومن يقف خلفها مجهولاً لا أحد يعلم به أو يعطيه حجماً أو قيمةً.
من الملاحظات الأخرى التي يجب أن نتوقف عندها كثيراً أننا خلال عقود طويلة، كنا نؤكد استقلالية القرار الفلسطيني، ولكن في الوقت نفسه نؤكد عمقنا العربي، وبعد الاختلالات التي حصلت في عالمنا العربي خلال السنوات الماضية والتي انعكست بشكل سلبي على القضية الفلسطينية؛ أصبحنا كشعب فلسطيني ومقاومة وطنية مكشوفي العمق والظهر، وهذا ما ساهم في الوهن الذي تعيشه قضيتنا.
قد يحاول البعض القول إن هذا غير صحيح وإن قوتنا السياسية اليوم وإنجازاتنا الشرعية، خير دليل على هذه القوة .. قد يبدو الأمر صحيحاً، لكن سياسات الأمر الواقع على الأرض، أي الفعل الحقيقي، هي الأخطر، سواء تمثلت في الاستيطان المتواصل أو تمزيق التواصل الجغرافي والديمغرافي الفلسطيني أو التناحر الداخلي.. هذه الأمور كلها ربما تكون بحاجة إلى إعادة تصويب في إطار وحدتنا الوطنية وعمقنا العربي.
قبل عقود، كان الفلسطيني رمزاً في العالم العربي ومثالاً وقدوةً.. والأكثر من ذلك أن الفلسطيني كان يشعر بالافتخار والاعتزاز عندما يعرّف نفسه أمام الإخوة العرب. وفجأةً ودون سابق إنذار، أصبح الفلسطيني مثل الصومالي، يقاتل بعضه بعضاً.. يعيش على المساعدات العينية والمالية القادمة من وراء الحدود.. مساعدات يغلب عليها كما قلنا في مقال سابق طابع التسول. وبدل أن يكون إعلامنا عامل توحيد وتقوية وتفعيل لعمقنا العربي.. وإعادة القطار إلى مساره شبه المفقود.. والمساهمة في تشكيل لوبيات ضاغطة لمصلحة الشعب الفلسطيني، وجدنا أنفسنا كإعلاميين نبحر وراء ترهات ليست ذات قيمة، تجاهلها أفضل من خوض غمارها.
ما زال البعض يصر على إعادة العجلة إلى الوراء بمفاهيم إعلامية لم تعد تصلح لهذا الزمن.. في وقت طغى الإعلام الاجتماعي على كل شيء.. أما الإعلام الجماهيري (أي وسائل الإعلام التقليدية) فإن سياساتها التحريرية ربما ستغرق ما بقي لنا من قوة في عمقنا العربي وخاصة دول الجوار.. فهل من معتبر.