يتخصص ويهتم موسى البديري، أحد الباحثين والشخصيات المقدسية المعروفة، المقيم حالياً في لندن، بتاريخ الشيوعيين الفلسطينيين، وله دراسات في هذا الشأن. وبالتالي، من الطبيعي أن يسارع مؤخرا -عندما علم أنّ أراشيف "المكتبة الوطنية الاسرائيلية" في القدس، حصلت على وثائق كثيرة عن الشبكات الداخلية للحركة الشيوعية، لمدة 85 عاماً- إلى محاولة الاطلاع عليها، ما دفعه لتذكر تجربته مع الأراشيف الإسرائيلية قبل نحو 35 عاماً.
يستعرض البديري أهم دور للأراشيف الصهيونية والاسرائيلية، ومنها ما يقع في أحياء لها أسماء إسرائيلية الآن تحاول طمس الاسم العربي، من مثل أرشيف في تسوية مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يقع في منطقة كانت معروفة قبل احتلال العام 1948 باسم "الشيخ بدر". ويستعرض عدد من الباحثين الإسرائيليين الذين كتبوا ما زعموا أنّها أبحاث بناء على هذه الأراشيف، ليصنعوا اسما شخصياً لهم، وليروجوا رواية إسرائيلية حول التاريخ مدعين أنّها مدعمة بالوثائق.
ويقول البديري أن جزءا من هذه الوثائق، كان تقارير أمنية أردنية، جرى الاستيلاء عليها أثناء حرب العام 1967. واتصل البديري في الثمانينيات مع إدارة هذه الأراشيف، التي رفضت السماح له بالاطلاع عليها، بذريعة أنّها "ملك الحكومة الأردنية"، وبالتالي صاحب القرار بشأنها هو الجيش الإسرائيلي، لأنها ستعاد للأردن إذا وقعت اتفاقية سلام. وعندما جادلهم البديري أن هناك فعلا باحثين إسرائيليين استخدموا الوثائق في كتاباتهم، ادعى المعنيون أنّ هذا خيانة للثقة، فقد اطلع هؤلاء على الوثائق بصفتهم عسكريين. وعندما استمرت محاولات البديري، وعندما ألمح للإسرائيليين أنهم يكذبون ويقومون بتمييز يسمح للإسرائيليين بالاطلاع على الوثائق، أخبره ضابط عسكري إسرائيلي أن عليه الطلب من المجلس الوزاري الإسرائيلي الإذن بذلك.
كتسوية في النهاية، سُمح للبديري بالاطلاع على ملفات اطلع عليها باحثون سابقاً، ومُنع من قراءة أو معرفة قائمة ملفات الوثائق الأردنية. وبالتالي لم يتمكن من معرفة ما هو موجود فعلا فيها. لكن ظلت عمليات إنكار وجود ملفات، وكثير من الملفات اتضح أن أهميتها محدودة تتعلق بشؤون بلدية وإدارية. ثم أُبلغ البديري أن وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، اسحق رابين، قرر إغلاق الأرشيف الأردني أمام الجميع؛ أي طُلب منه الانصراف.
لكن ما حصل عليه البديري، أعطى جزءا من تفاصيل وتقارير أجهزة الأمن الأردنية عبر 18 عاما (بين العامين 1949 و1967)، تتضمن شؤونا تتعلق بناشطين وحزبيين في مدن القدس، وبيت لحم، والخليل، ونابلس، وجنين، وطولكرم، وأريحا، وحول متهمين أو مشبوهين بالتجسس لصالح العدو الإسرائيلي، وحتى حول الأوضاع الأمنية والاقتصادية والرأي العام.
توقف البديري في مقال نشره في العدد الأخير من مجلة "Jerusalem Quarterly"، عند الوثائق أثناء عهد حكومة سليمان النابلسي، وكذلك ما سمي "حركة الضباط الأحرار" في الجيش. وكيف استثني الإخوان المسلمون من حظر النشاط السياسي منذ نهاية الخمسينيات. وبينما كان هناك اهتمام خاص بالحاج أمين الحسيني، مفتي القدس السابق، وأنصاره مطلع الخمسينيات، صارت منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيسها أحمد الشقيري، محور الاهتمام منتصف الستينيات، وهناك مذكرة موجزة بشأن ياسر عرفات.
مع نشره قصته السالفة، أرفق البديري مع مقاله، صوراً من بعض التقارير الأمنية الأردنية. وعلى قلة هذه الوثائق المنشورة (5 صور لخمس صفحات)، فإنّها تقدم صورة مهمة وحية عن عدة أمور وحالات توضح غنى هذه الوثائق وأهميتها، وربما ضرورة استعادتها (إن لم يكن قد حدث هذا). فمثلا، التقييمات السياسية لضباط الأمن للرأي العام، والتي تبدو موضوعية ومتوازنة تحاول حقاً فهم المزاج العام آنذاك. وتنتقد أحياناً الأداء الرسمي ذاته. ثم بعض تفاصيل الاجتماعات الحزبية التي لا تخلو من طرافة، من مثل تداعي الشيوعيين في اجتماع في فندق قصر الحمراء، في رام الله، يوم 7 /1 /1957، في الساعة الخامسة، لتأسيس ناد للشيوعيين ليقف بوجه قيام الحزب الوطني الاشتراكي بتأسيس فرع له في المدينة، وجرى جمع 160 دينارا تبرعات لبدء النادي، وترخيصه قانونياً، وكيف جرت مناقشة فتح باب العضوية للسيدات، وعارض النائب فائق وراد ذلك.
لعل فتح باب استعادة هذا الأرشيف أمر بالغ الأهمية.
عن الغد الاردنية