بات من الواضح أن حلم المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية آخذ بالتلاشي بعد المناظرة وبعد الاستطلاعات والتي أعطت تفوقا لمنافسته هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية السابقة وزوجة الرئيس السابق بثلاث عشرة نقطة، هذه الهوة التي تتسع لا يمكن ردمها في الأيام المتبقية، فقد حسمت هيلاري معركتها قبل أن تبدأ الانتخابات وساعدها في ذلك الأداء الفاشل للمرشح الجمهوري دونالد ترامب.
في الانتخابات السابقة في مثل هذه الاجواء قبل أربع سنوات كنت متواجدا في الولايات المتحدة أتابع الانتخابات، وقبل موعدها بأسبوعين كنا نعتقد أن هيلاري كلينتون ستعود للخارجية الأميركية فيما لو فاز أوباما بولاية اخرى وزيرة للدبلوماسية الأميركية، فاجأني حينها موظف كبير في الخارجية الاميركية بأن كلينتون ستغادر المنصب وعندما أبديت استغرابي، قال: حتى تجهز نفسها للحملة الانتخابية للرئاسة القادمة وسيحل محلها وزير جديد وربما يكون جون كيري، ومصدر الاستغراب لأنها جربت حظها في الانتخابات الرئاسية داخل الحزب الديمقراطي حين ترشحت مقابل أوباما وكما جرت العادة في الولايات المتحدة عندما يفشل المرشح فانه يغادر الحلبة السياسية للأبد، مثل آل غور وميت رومني وغيرهم ولا يعود مرة أخرى.
قلت للموظف الكبير لكنها جربت حظها وفشلت فكيف ستعود؟ قال: اِن هيلاري هي المرشحة التي لو اعيدت الانتخابات فانها ستفوز، فهي تحظى بتعاطف الشعب الاميركي، وهناك قدر من الندم لدى الاميركيين عندما أسقطوها، فهي زوجة رئيس سابق ومعروفة لكل الأميركيين الذين يذكرون كيف حافظت على تماسك عائلتها أثناء انكشاف خيانات زوجها وكيف أدارت الأزمة بمسؤولية عالية.
بالنسبة للفلسطينيين فإن المنافس ترامب هو أسوأ الخيارات ليس لانعدام خبرته السياسية وما يقدمه من أداء غير متزن، وإن ظهر في بدايات حملته على مسافة واحدة بتصريحات مهاجمة لليهود والعرب على حد سواء، لكنه انتهى الآن في حجر اسرائيل وأصبح مرشحها لانتخابات الرئاسة، حتى وإن لم تظهر اسرائيل ذلك خوفا من تكرار نموذج حماقة دعم رومني علناً في الانتخابات السابقة، عندما القت اسرائيل بكل بيضاتها في سلته ثم فشل لتستدعي لنفسها عداء متزايدا من قبل أوباما .
لكن خيار ترامب المتقلب يفترض أن يضيء الأضواء الحمر في المقاطعة، لأن الملياردير اليهودي شلدون أدلسون دعم حملته بمائة مليون دولار وهو رقم كبير، اذ يشكل سابقة في الحملات الانتخابية. وادلسون هذا معروف بانه من يقف خلف نتنياهو ويعيش في الولايات المتحدة وهو مالك صحيفة "اسرائيل اليوم" اليومية التي توزع مجانا وتشكل أحد أبرز أبواق نتنياهو وحزب الليكود.
كان هناك خشية من فوز مرشح الجمهوريين رجل الأعمال، لأن تحالفا سينشأ بين أصحاب رأس المال أي بينه وبين ادلسون وهو ما يعني ضمان تبني كل مواقف اليمين في اسرائيل بما فيها المشروع الاستيطاني والذي أبدى اوباما قدرا من الاعتراض عليه، وان لم يكن هذا الاعتراض بتلك القوة القادرة على وقفه، لكن على الاقل أظهرت قدرا من لامشروعية المستوطنات.
أثناء ولايتَي الرئيس اوباما بدت الولايات المتحدة كأنها تنسحب من المنطقة، اذ لم يكن تدخلها في صراعات السنوات الخمس الاخيرة هو ما عرفناه سابقا عن القوة الاميركية والسياسة الاميركية التي كانت تحشر نفسها في كل بيت، ففي ليبيا تركت الامر للناتو والفرنسيين تحت قيادة قطر لإسقاط القذاقي، أما في سورية فقد كان التدخل أقل كثيرا مما تصورنا، وربما لولا اسرائيل جارة لسورية لأدارت ظهرها كما فعلت في اليمن.
هذا لأن الرئيس أوباما اتخذ سياسة التراجع والانسحاب نظرا لتراجع المصالح الاميركية في منطقة الشرق الأوسط وانتقالها لشرق آسيا بديلا، وأيضا نتاج قراءة معمقة بأن هذا الشرق سيبقى غارقاً في صراعاته، وأن اي تدخل أميركي سيجر الولايات المتحدة لأن تكون طرفاً في هذه الصراعات كما حصل في العراق، ولأن ثقافة القبيلة كما قال أوباما هي التي تتحكم في صراعات المنطقة.
هنا السؤال: هل كانت السياسة الأميركية خلال السنوات الماضية والتي عكست تراجع الحضور الاميركي هي سياسة شخصية للرئيس أوباما، أم سياسة ناتجة عن دراسة أوسع لمتطلبات المصالح الاميركية؟ وبمعنى آخر هل هي سياسة شخصية ام سياسة الدولة؟ هذا السؤال الذي يدفعنا للتنبؤ بالسياسة الأميركية القادمة أثناء ولاية كلينتون وخاصة أن الاخيرة تعارضت مع الرئيس اوباما في بعض السياسات التي تخص الشرق الاوسط، وخصوصاً في الملف السوري سيما انها كانت تدفع باتجاه تدخل أكبر.
أما السؤال بالنسبة للفلسطينيين أكثر ضرورة، ففي السنوات الثلاث الاخيرة من حكم الرئيس أوباما أي منذ فشل مفاوضات الاشهر التسعة بدت الولايات المتحدة كانها طوت ملفاتها من على الطاولة وغادرت بلا رجعة، فماذا ستقرر هيلاري كلنتون في هذا الملف؟ والذي تعرفه جيدا كوزيرة سابقة وكزوجة رئيس شهدت ولايته توقيع اتفاق أوسلو وزخم التسوية في تسعينات القرن الماضي.
هل ستعود هيلاري عن سياسة أوباما التي بدأت تنفذ اعادة الانتشار في المنطقة؟ السؤال ضروري سيما وأنها أبدت قدراً من الاختلاف مع هذه السياسية، صحيح ان الرئيس أوباما يحظى بشخصية كارزمية مكنته من فرض ارادته على القرار في البيت الأبيض، وفي لحظة من اللحظات وقفت تلك الشخصية وحدها تصد ضغوطات الخارجية والقوات المسلحة ومراكز الابحاث واسرائيل، عندما أرادت القوات المسلحة تنفيذ الهجوم على سورية عام 2013 لكن هل ستبقى نفس السياسة بعده؟
باتجاه ما، ليس من السهل الانقلاب على هذه السياسة، هذه مسألة، والمسألة الأُخرى فان اعادة الانتشار ساهمت في تجنيب الولايات المتحدة الغرق في مستنقع الصراعات في المنطقة، وهي الدولة التي دفعت ثمناً نتاج التدخل سواء من الاقتصاد الاميركي أو من الدم الاميركي، وخرجت في السنوات الاخيرة أقل الخاسرين، قد تحاول كلينتون العودة لكنها ستكتشف ما اكتشفه أوباما وستترك الشرق الاوسط يغرق في دمائه، وستترك الفلسطينيين والإسرائيليين "ينضجون في القدر" كما يقول المثل الا من خلال تدخلات لها طابع اطفائي عندما يشتعل الحريق فقط ...ستحاول لكنها ستكتشف أن أوباما حرك القاطرة ولا يكمن العودة للمحطة.