إسرائيل والانقلاب «الناعم» على الديمقراطية

د. عبد المجيد سويلم
حجم الخط

في الواقع لا يوجد في هذا العنوان أي إثارة، أو استثارة، بل على العكس من ذلك يوجد شبهة كبيرة في استخدام لفظ "الناعم".
أقصد أن هذا الانقلاب هو أقرب إلى النعومة منه إلى الخشونة من زوايا كثيرة، والنعومة هنا تنطوي على الكثير من المجاز.
الانقلاب على الديمقراطية في إسرائيل هو عملية متصلة ومتواصلة منذ زمن وقد تعززت هذه العملية بصورة مكثفة في السنوات العشر الأخيرة.
والانقلاب هو عملية من زاوية التدرُّج والتمهيد والتحضير والتهيئة.
أما المراحل التنفيذية لهذا الانقلاب فتأخذ أحياناً الشكل المباشر والفج في حين تؤجل بعض الفصول التنفيذية إما لقياس ردود الأفعال وإما لأسباب تتعلق بعدم "النضج" الكافي أو الكامل لهذا التنفيذ، كما يعتمد الأمر على قياس ردود الفعل الدولية إذا كان الأمر على تماس مع ردود الأفعال الدولية.
بطبيعة الحال نحن نتحدث هنا عن الانقلاب ليس بعلاقة إسرائيل بالمجتمع الفلسطيني القابع تحت الاحتلال وإنما نتحدث عن هذا الانقلاب فيما يتعلق بالمجتمع الإسرائيلي نفسه، ذلك أن حقيقة العلاقة القائمة اليوم بين إسرائيل والشعب الفلسطيني تحت الاحتلال هي علاقة البطش والتنكيل والاستيطان وهدم المنازل وحرقها، وسرقة الأرض ومصادرتها والتفنُّن في تحويل حياة الفلسطيني إلى جحيم لا يطاق، "أملاً" بتحقيق أعلى درجة من "الترانسفير" الاقتصادي والاجتماعي بانتظار "فرص" سانحة من التهجير القسري إذا سمحت الظروف.
كل متابع منصف للنقاشات التي دارت حول "البث الإذاعي" وبعدها وقبلها حول "المنظمات غير الحكومية" يستطيع أن يجزم ودون تردد أن ثمة انقلابا ناعما (بالمعنى الذي أُشير إليه) يتم على قدم وساق.
أما بالعودة قليلاً إلى الوراء فإن منظومة القوانين التي اقترحتها وناقشتها وأقرّت البعض منها الكنيست الإسرائيلية والموجهة أساساً ضد فلسطينيي الداخل فإن هذا الانقلاب الناعم لا يحتاج إلى أي إثبات من أي نوعٍ كان.
لكن السعار الحقيقي وغير المسبوق الذي شاهدناه في إسرائيل بعد قرار اليونسكو، وبعد كلمة "بتسيليم" في مناقشات مجلس الأمن فإنها الشعرة التي قصمت فعلاً ظهر البعير.
لا بدّ من التأكيد هنا أن كلمة "بتسيليم" لم تكن تقليدية ولا معتادة ولا هي معهودة من حيث قوة المنطق والشجاعة والتأثير. كما أن التركيز على الاحتلال وليس غير الاحتلال أعطى لهذه الكلمة بعداً عميقاً وشاملاً ومسؤولاً على الصعد السياسية والإنسانية والأخلاقية. أما ردة الفعل الإسرائيلي على هذه الكلمة فهي، أيضاً، ليست معتادة ولا معهودة.
ردة الفعل الإسرائيلية على هذه الكلمة التاريخية جاءت لتكشف حقيقة الانقلاب الذي أشير إليه. كلمة "حجاي" كانت مرافعة عادلة عن الحقوق وعن المظالم، وكانت بحق المحاولة الأهم برفع الصوت عالياً في وجه الاحتلال باعتباره خياراً وحيداً لدولة الاحتلال، وكانت مرافعة شجاعة للدفاع عن الشعب الإسرائيلي نفسه ضد محاولات زجّه وانخراطه النهائي في غمرة هذه المنظومة الاحتلالية ولقطع الطريق بصورة نهائية عن أي سلام قادم.
حرمان الشعب الإسرائيلي من العيش في سلام حقيقي وأمن حقيقي أصبح مستحيلاً مع بقاء الاحتلال، وهذه هي أحد الجوانب الجوهرية في مرافعة "بتسيليم" وهذا الأمر بالذات هو جوهر الصراع ومضمونه وحقيقته.
كشفت هذه المرافعة آخر ما تبقّى أو ما كان قد تبقّى من "المستور" الإسرائيلي.
الدولة الإسرائيلية هي دولة احتلال والمجتمع الإسرائيلي بصورة عامة (مع الأسف) مؤازر للاحتلال، والمؤسسات الرسمية من جيش وأمن وأحزاب سياسية ومنظمات مجتمعية لا تتصور إسرائيل إلاّ باعتبارها قوة احتلال. كأن الاحتلال هو من طبيعة الأشياء.
تسلّل هذا الأمر إلى بعضنا، أيضاً، وأصبحنا أحياناً "نعتاد" الاحتلال وهناك من بات يألفه، أيضاً.
المراهنة الإسرائيلية هي في الواقع تعميم ثقافة الاحتلال في إسرائيل والتسلّل إلى الثقافة الوطنية الفلسطينية تحت أو خلف ستار وساتر في الصعوبات التي يعيشها المشروع الوطني، لكن الحقيقة هي أن الاحتلال هو منظومة متكاملة لتهشيم الشعب الفلسطيني وهو وصفة جاهزة لإبقاء المجتمع الإسرائيلي متوتراً وقلقاً لمواجهة (خطر الآخر) كي يستطيع اليمين، وكذلك الفكر الصهيوني الاستمرار بالبقاء.
مرافعة "العاد حجاي" نبشت في المحرّم الإسرائيلي من زاوية ما تراكم من وعي مزيّف حول "طبيعيّة" الاحتلال، ولذلك فقد رأينا أن ردود الفعل الرسمية وصلت إلى الجنون، وخصوصاً المطالبة بسحب الجنسية الإسرائيلية منه.
أي أن من يعي وينبه ويحذر من خطر الاحتلال على المجتمع الإسرائيلي (ناهيكم طبعاً عن خطره على الشعب الفلسطيني) لا يجدر به أن يكون إسرائيلياً.
بكلمات أخرى، أصبح الدفاع عن الاحتلال هو عنوان هُويّة في إسرائيل، وهذا الوصف ليس فيه أي مبالغة. إنه أشبه بالتحريض على القتل. وبالمعنى السياسي للتكفير فإن آلة الدعاية والحكم في إسرائيل تكفّر لكل من له موقف مناهض للاحتلال، وهذه مقدمات مؤكّدة لثقافة فاشية.