أصدر الكاتب والروائي الفلسطيني عبد الحليم أبو حجاج رواية اليتيم عن دار الكلمة للنشر والتوزيع في غزة .
ويقول الكاتب أبو حجاج في ملخص الرواية " جابر ولد يتيم رغم وجود والديه على قيد الحياة ...وُلِد ونشأ وبلغ سن الشباب وهو يتيم بهذا المفهوم الذي عبَّر عنه أمير الشعراء أحمد شوقي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، حين قال في إحدى قصائده الشعرية:
ليس اليتيمُ مَن انتهى أبواه مِن هَمِّ الحياة وخلَّفاه ذليلا
إنَّ الـيـتـيـم هـــو الــذي تَـلْـقَى له أُمَّاً تخلَّتْ أو أَباً مشغولا
هذا هو جابر الطفل البائس الذي تخلَّت عنه أُمُّه بزواجها الجديد بعد طلاقها من زوجها الأول، وهو الذي انشغل عنه أبوه بأعماله وبزواجه وبأسفاره إلى بلاد الله.
مرَّ جابر – بحسب أبو حجاج - بمرحلة الطفولة ثم الصبا ثم الشباب بلا رعاية وبلا حماية وبلا عطف أوحنان، فعاش في دنياه هزيلا متهالكا لا يقوى على البقاء أو دفْع البلاء، كثمرة ذابلة على غصن شجرة نَخِرَة، فطوَّحته الأيام وألقت به في أتون العذاب والذلة والهوان؛ فهان على والديه وعلى الأقربين، فكادت تهون عليه نفسُه بأن يضع حداً لهذه المعاناة ... ولكن الله لطف.
ويواصل أبو حجاج " كانت أول محطة نَعِمَ فيها بالحب والحنان بعد والديه وهو رضيع وحين كان طفلا يدرُج هي محطة جده وجدته، وتقلَّب وهو صبي بين نار امرأة الأب القاسية وبين نار العم الظالم؛ فأذاقاه المرارة وأسقياه العذاب وتجرَّع على يديهما كئوس النكد اليومي، فعاش ذليلا مهاناً لا يشفع له عندهما ضعفه ولا يُتْمه ، ولا يحول بينه وبين أحدهما وازع من دين أو ضمير.
ويضيف " كبُر الفتى فوجد نفسه صبياً مُلقى على طِوار الطريق، بلا مأوى وبلا طعام وبلا حب، تكاد تستر بدنه ثيابه العتيقة المهلهلة، وتكاد عيناه وقسمات وجهه تفضح سره. ولكن الله لا ينسى من فضله أحد، فسخَّر له رجالا طيبين أخذوا بيده ، فعمل في مزارع الخضروات، وفي البناء وعمل نادلا في المقاهي ثم سائق تاكسي، حتى اكتملت رجولته، فرماه قدره بلقاء صبية ناضجة رضيت به زوجاً وأصبحت فيما بعد زوجه وأم أولاده، فوقفت بجانبه وقاسمته حياته، وتجرَّعت معه رشفات المر من كأس المرارة، وواسته بحبها وأشركته في مالها حين تخلَّى عنه أقرب الناس إليه، وآزرته حين امتنعوا عن مساعدته وأحجموا عن مساندته، فمضت معه جنباً إلى جنب دون ملل أو كلل أو ضجر. ولكنهما لم يسلما من عثرات الزمان، ولا من أذى الأشرار ومكائدهم، ولم يسلم هو من الأمراض التي هجمت عليه، ومازال يعاني منها ويكابد.
قصة جابر- هذا اليتيم- زاخرة بالأحداث الأليمة، طافحة بالمواقف التي تستوقف رجال التربية وعلماء الاجتماع للنظر فيها وللانتباه لها. فالقصة في مجملها تثير قضية تربوية اجتماعية؛ قضية العلاقات الأسرية (علاقة الزوج بزوجه، وعلاقة الوالدين بأطفالهما)، وكذلك علاقة المؤسسات الاجتماعية والجمعيات الخيرية بهكذا أطفال لحمايتهم من الانحراف السلوكي الذي قد يؤدي إلى الإجرام وإلى مزيد من المجرمين.
كما أنها تستصرخ رجال الدين والقانون ليعيدوا النظر في اهتماماتهم وأحكامهم، وهي تناشد الأزواج الجُدُد وتدعوهم إلى التعقل والحكمة في حل النزاعات الأسرية - التي غالباً ما تطرأ في السنة الأولى من الزواج- للمحافظة على حياتهم وعلى حياة أطفالهم من الضياع والتشرذم، ولحمايتهم من السير في الطريق المعاكس صوناً لهم ولمجتمعاتهم.
وتمتاز الرواية بالسرد القصصي ذي السبك الأدبي بما يتوافق مع السمات اللغوية الراقية، كما تمتاز بالحوارات ذات الأساليب والمفردات المنتقاة لضمان ولُوجِها إلى قلب القارئ ونفاذها إلى بواطن عقله وضميره ؛ فتُحدث في نفسه ذياك الطرب الحزين الذي يهز الوجدان .
وتمضي أحداث القصة إلى منتهاها، فيكبر جابر وتكبر همومه وأحزانه فيلاقي الذل والمهانة على يد امرأة أبيه في إمارة الشارقة حيث كان يقيم أبوه، ثم من بعدها على يد عمه في دير البلح مسقط رأسه وموطنه. يخبرنا جابر عن شيء من مخزون ذكرياته وهو طالب في المدرسة فيقول:
... ولم أكن أحصل على مصروفي المدرسي من أحد، ولم أكن أملك في جيبي شيكلا واحداً أنفقه على نفسي كباقي الزملاء الذين يشترون من مقصف المدرسة ما حلا لهم من طعام وشراب، فأنظر إليهم وأنزوي عنهم وأنا حزين مستاء من مظهري ومن فقري، فأنا الآن في أوائل الشباب، تهفو نفسي إلى أشياء كثيرة لا يتحقق منها الأدنى...
( ثم يقول): ... تعرَّفت إلى بعض الزملاء في المدرسة الثانوية، وتوطدت العلاقة بيني وبينهم إلى درجة صداقة، وكنت أحرص على اختيار أصدقائي أو مَن أخالطهم أن يكونوا من الطبقة الفقيرة مثلي أو من الطبقة المتوسطة التي لا أجد حرجاً من صحبتهم. أما الأولاد الأغنياء والمترفين فكنت أتجنبهم بقدر الإمكان، وأنزوي عنهم بعض الوقت في أول الفسحة، وأُخرِج ما بحقيبتي من ساندوتش بالزعتر أو بالدُّقة أو محشو بالفلفل الأحمر، فأَلْتَهِمه في الخفاء عن عيونهم، ثم أعود إليهم وأنا أتلمظ أمامهم مؤكِّداً لهم بفعلي هذا أني تناولت إفطاري كما تناولوه. وكذلك كنت أتعمد الاختفاء عنهم، وأتباطأ في الذهاب إليهم خشية أن يفاجئني أحدهم بالتفضل عليَّ بأن يقدِّم إليَّ شطيرة أو يدعوني أحدهم إلى المقصف لتناول الطعام أو الشراب على حسابه الخاص. كنت أتحاشى ذلك من أي زميل، وأخشاه من أي أحد منهم، لأني لو قبلت كرم الكرماء اليوم فمن أين لي أن أرد الكرم بمثله غداً!. رحم الله الإمام علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه- الذي قال:" لو كان الفقر رجلا لقتلته".
ولم تَخلُ الرواية من حوارات ومناقشات بين جابر الرجل وبين سائر أصحابه؛ مما تفرضه عليهم الظروف الحياتية وبخاصة في مجالي السياسة والاقتصاد، وما يعانيه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من سوء الأحوال الاجتماعية وما يكابده من ضيق بسبب الحصار وإغلاق المعابر والبطالة.