فى مؤتمر مصر والقضية الفلسطينية الذى عقده المركز القومى لدراسات الشرق الأوسط فى السابع عشر من أكتوبر عام 2016، استحوذ الخطاب المعلن على الاهتمام الإعلامى وكذلك القضايا التى عالجها المؤتمر والمتعلقة بجوانب عديدة للقضية الفلسطينية فى المرحلة الراهنة، فى حين أن الاهتمام بالخطاب غير المعلن المتمثل فى النقاشات الجانبية أو الثنائية أو الجماعية بين الحاضرين من مصريين وفلسطينيين باختلاف مواقعهم واهتماماتهم لم يحظ بنصيب من هذا الاهتمام، رغم أن هذا الخطاب المهمش أو الجانبى، قد يكتسب أهمية تعادل أو تفوق أهمية الخطاب المعلن، وذلك لأسباب عديدة من بينها أن أصحاب الخطاب غير المعلن قد يعتقد بعضهم أن ما يقولونه سوف يكون خارجا عن سياق المؤتمر، أو أن بعض هؤلاء قد لا يحسن التعبير عما فى نفسه فى العلن، وأمام هذا الحشد الكبير من المتخصصين والدبلوماسيين والأكاديميين، وأخيرا وليس آخرا أن البعض الآخر يريد أن يفضى بما فى نفسه من ملاحظات، وما يعتمل داخله من معاناة مع من يختار من الحاضرين أو من يلمس فيه القدرة على الإنصات والاستماع إلى ما يقول.
فى هذا السياق فإن لقاء المصريين - بعض المصريين المشاركين فى المؤتمر - مع الفلسطينيين - بعض الفلسطينيين من قطاع غزة - قد حفل بالعديد من الدلالات، فنحن نعرف أن أهل غزة من الفلسطينيين يحبون مصر والمصريين حبا صادقاً، ويكنون لمصر والمصريين الود والمودة، ولكن أن تعرف ذلك شىء، وأن تراه رؤى العين شىء آخر تماماً، إذ تكتشف أن هذا الحب وهذه المودة صادقة وعفوية وتلقائية، وأنها نابعة من أعماق الوعى والشعور والتاريخ، وأن هذا التدفق العاطفى عندما نتأمله عقلانيا من السهل اكتشاف مصادره المتمثلة فى العلاقة التاريخية التى ربطت بين مصر وقطاع غزة خلال الإدارة المصرية للقطاع، والكفاح المسلح الذى جمع بين المصريين وبين أهالى قطاع غزة ضد إسرائيل، مرورا بالثقافة المصرية السائدة أو التى كانت سائدة، تلك الثقافة التى تتميز بالتسامح والإقبال على الحياة بمختلف جوانبها المعيشية والفنية والموسيقية، وفضلا عن هذا وذاك من مصادر هذه العاطفة ثمة الوعى بأهمية مصر ودور مصر ليس فحسب لفلسطين وإنما للعالم العربى والمنطقة، فهم يرون أن نهوض مصر نهوض للقضية الفلسطينية واستقرار مصر دعم لقضيتهم.
حرص الفلسطينيون من أهالى غزة فى هذه اللقاءات الجانبية على أن يصل صوتهم لجميع المصريين، فهم يؤكدون أن غزة ليست حماس وأن فلسطينى غزة ليسوا جميعا حمساويين، بل بعض الغزاويين فقط وأن مصر والمصريين قادرون على التمييز بين حماس وغزة، بيد أن الإعلام - ليس كل الإعلام - بل بعضه فقط يخلط الأمور ويزيدها التباسا.
يفتقد الفلسطينيون فى قطاع غزة الوجود المصرى فى القطاع، أقصد الوجود الثقافى والمدنى أى الذى يشارك فيه المجتمع المدنى المصرى بكل هيئاته الإنسانية والإنمائية والحقوقية، فهم يرون أن التواصل بين المجتمع المدنى الفلسطينى والمجتمع المدنى المصرى ضرورة لابد منها على مستويات عدة إنسانية وثقافية ومجتمعية تخفف من وقع الحصار المزدوج وتتيح اللقاءات المباشرة وذلك تجنبا لحساسات السياسة وحسابات الدولة المصرية التى يقدرونها فى أعماقهم ويعرفون حساسية الموقف الراهن ورهاناته وحرص الدولة المصرية على الشرعية الفلسطينية ووحدة الأراضى الفلسطينية التى تشكل إقليم الدولة الفلسطينية كما يعرفون جيدا أن غزة محتلة حتى الآن ومحاصرة وأن سلطات الاحتلال لا تلتزم باتفاقيات جنيف.
يراهن الفلسطينيون على هذا التواصل وتلك الجسور الممكنة بين المجتمع المدنى الفلسطينى والمجتمع المدنى المصرى كأداة ووسيلة لموازنة ثقافة حماس من جانب وثقافة الاحتلال من جانب آخر، ويبدو هذا الأمر مهما خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة من الغزاويين الذين لم يعاصروا الثقافة المصرية والإدارة المصرية للقطاع وإنما يسمعون عنها - وربما يقرأون- من آبائهم وأجدادهم الذين عاصروا هذه الحقبة واستوعبوا دروسها وآثارها.
بالتأكيد لا يحتاج فلسطينيو غزة لإثبات مودتهم وحبهم لمصر فالتاريخ والجغرافيا والعروبة والثقافة تقف شاهدا على أساس هذه المودة، ومع ذلك وبالرغم من ذلك فهم أو بعضهم الذين شاركوا فى هذه النقاشات يتبارون فى إثبات قرابتهم للمصريين من خلال استعراض امتدادات العائلات المصرية والفلسطينية فى بعض محافظات مصر وبعض محافظات غزة وذلك للتدليل على صدق توجهاتهم إزاء مصر والمصريين.
هذه بعض معالم النقاشات الجانبية والهامشية التى حفلت بها اللقاءات على هامش هذا المؤتمر بين بعض المصريين وبعض الفلسطينيين، والتى تمثل فى اعتقادى رسائل مهمة ينبغى تأمل محتواها ومنطوقها والأهم من ذلك تحويلها إلى أدوات عمل ودليل لرسم سياسات جديدة تأخذ فى الاعتبار اعترافات أهل غزة وقدرتهم على استيعاب التعقيد الكامن فى اللحظة الراهنة وربما اقتراح بدائل مدنية وثقافية على الصعيد غير الرسمى لتعميق علاقات مصر بغزة رغم سلطة الأمر الواقع الحمساوية.
ولا شك أن نقل فحوى ومضمون هذه النقاشات الجانبية يتطلب درجة من الأمانة والمسئولية الأخلاقية فى توصيل هذا المحتوى للرأى العام فى مصر، وآمل أن أكون قد تجنبت التهويل أو التهوين من شأن هذه الرسائل وأن تكون صورة مطابقة لما سمعت ورأيت.
عن الاهرام