معظم المؤشرات تفيد بأن الأزمة الدستورية في لبنان في طريقها إلى الحل، هذا البلد الذي ظل دون رئيس منتخب من قبل مجلس النواب لأكثر من عامين ونصف العام، وفي ظل استعصاء حكومي، فإنه ومع ذلك، نجح في احتواء أزماته مع أن نيران الاقتتال على مقربة منه، يبدو لبنان معجزة البقاء بدستور مكتوب، وميثاق غير مكتوب أكثر قوة من الدستور، وعندما يصور شعراؤه ومغنّيه لبنان كمعجزة، فإن ذلك يبدو أكثر قرباً من الحقيقة.
إلاّ أن واقع الأمر، أن هذه الحقيقة لا تستوي إلاّ مع بقاء لبنان ساحة لتقاطعات واستقطابات المنطقة العربية، كان كذلك ولا يزال، كان في كثير من الأحيان، هذا البلد الجميل المعطاء، مجالاً للصفقات والابتزازات بين مختلف المحاور العربية المتنافسة، هذا البلد الصغير كان ولا يزال كبيراً في كونه كان دائماً "مطلوباً" لكي يقبع في ظل هذا النظام أو ذاك، ظل ورقة قوية رغم أزماته المستمرة، وظل "حاجة" عربية لا بد منها، حتى وإن ظهر وكأنه على هامش العلاقات السياسية للنظام العربي الرسمي، ولعلّ في لبنان ما يمكن أن يشكل نموذجاً لما يمكن أن يمثله كحل للعديد من الإشكالات والنزعات الناجمة عن تداعيات ما يسمى "الربيع العربي"، خاصة لجهة ميثاقه الوطني غير المكتوب والذي من خلاله شكل حلاً لتقاطعات وتناقضات طبقاته السياسية ومرجعياته الدينية والطائفية والمذهبية العديدة، ونموذجا واقعيا، أكثر من كونه نموذجاً مثالياً، ونموذجا مؤقتا أكثر منه نموذجاً دائماً ومستمراً، ونموذجا للتعايش، حتى وإن كان شكلياً في كثير من الأحيان، وعلى حساب طبقاته الفقيرة والمهمّشة من مختلف الشرائح الدينية والطائفية والمذهبية.
وإذا كانت بداية حل أزمة الرئاسة قد شكلت استعادة للدور المصري مع زيارة وزير الخارجية المصري إلى بيروت، وبخاصة في إيجاد حل توافقي وبإقناع مختلف الأطراف الفاعلة على حل الأزمة الرئاسية الدستورية بقبول ترشيح الجنرال ميشال عون لمنصب الرئيس، فإن زيارة المبعوث الملكي السعودي وزير الدولة تامر السبهان قبل يومين إلى بيروت، واجتماعاته المتواصلة مع كافة ممثلي القوى السياسية والدينية والطائفية والمذهبية في لبنان، تأتي لاستكمال الدور المصري، ولاستعادة التأثير السعودي على مجمل السياسات اللبنانية من جديد، والأمر يتعلق هنا، بالهيكل الرئاسي، رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، في عملية توازن تشكل حلاً، مع أنها قد تشكل مشكلة جديدة، وهنا نتحدث عن: أولاً، تشكيل الحكومة برئاسة سعد الحريري، والأهم البيان الوزاري، في السابق، كانت الرئاسة لا تشكل معضلة، كما رئاسة الحكومة، وكان بالإمكان حلها، إلاّ أنه، وفي السابق، أيضاً، شهدنا حكومة برئيس دون وزراء لأشهر طويلة، بسبب استعصاءات التشكيل نظراً لحالة الاستقطاب وتناقض المصالح والرؤى ذات الطبيعة المناطقية والطائفية، ومن تنازل للقبول بميشال عون يريد ثمناً لهذا التنازل، وبالمثل في أمر رئيس الحكومة الحريري.
وإذا ما نجح الحريري بتشكيل الحكومة، فإن أمر صياغة البيان الوزاري، تبدو أكثر صعوبة من المرات السابقة، هنا تبرز التقاطعات العربية والإقليمية بشكل بارز، عملية التوازن ستظل صعبة للغاية وترزح تحت كم هائل من الحسابات والصفقات والتقاطعات، خاصة في ظل وجود محوري طهران والرياض وممثليها في الطبقة السياسية اللبنانية، وإذا كان السبهان قد التقى ممثلي "الطائفة" الشيعية فإن وضع "فيتو" على اللقاء مع "حزب الله"، المؤيد أساساً لرئاسة عون، يعتبر أمراً بالغ الحساسية، إذ تضع الرياض "حزب الله" على قائمة "الإرهاب" ولا ننسى في هذا السياق، أن رئيس المجلس النيابي، نبيه بري من أبرز المعارضين لرئاسة عون، فإن الأمر لا يبدو بهذه السهولة، لعون أصوات كافية لترشيحه من قبل مجلس النواب، إلاّ أن تشكيل الحكومة ثم بيانها الوزاري، سيظل الأمر الأكثر صعوبة، وهو ما نعتقد أن السبهان يحاول تدوير الزوايا لإيجاد حل لهذين الإشكالين، ولهذا، أيضاً، جاء قبل اجتماع مجلس النواب لجلسة اختيار الرئيس، لعقد تفاهمات وتوافقات من شأنها تذليل العقبات التي ستعقب انتخاب عون رئيساً وتكليف الحريري رئيساً للحكومة.
ولا بدّ في هذا السياق، من الإشارة إلى اتفاق الطائف الذي سبق للسعودية أن رعته وما زال ساري المفعول بطريقة أو بأخرى، هذا الاتفاق، منح رئيس الحكومة صلاحيات كانت من صلاحيات رئيس الجمهورية، لذلك، فإن الحريري المحسوب على السعودية، يشكل ضماناً لسيرورة "الطائف" من جهة، وحصة السعودية في ظل توازنات الطبقة السياسية في لبنان، وكشكل من أشكال إنقاذ اتفاق الطائف في ظل دعوات متناثرة في بعض الأحيان للخروج عليه.
احتساب أصوات النواب في المجلس النيابي، ستكشف مدى نجاح الجهود العربية، في وضع خارطة طريق لإنقاذ الطائف، باعتباره اتفاقاً لإنقاذ لبنان من أزماته!!