تندفع العمليات المسلحة في الموصل وحلب، بحسابات الأطراف الدولية والإقليمية المتعارضة، إلى سيناريوهات تقسيم شبه محتمة.
خروج «داعش» من الموصل، ثاني أهم مدينة عراقية، مؤكد رغم أي فواتير إنسانية تدفع أو معارك عسكرية تطول.
ماذا بعد الموصل؟ وعلى أي نحو تستقر الأوضاع الهشة؟ هناك احتمالات بتصفية حسابات سياسية على أسس مذهبية وعرقية. وهناك احتمالات أخرى باتساع نزعات العنف المتبادل والقتل على الهوية، وإعادة إنتاج «داعش» وتصدير الإرهاب إلى حيث يستطيع أن يصل.
بالنظر إلى حجم الانهيار الذي لحق ببنية العراق كمجتمع موحد يصعب التعويل على مشروع وطني جامع يصالح مكوناته ويؤسس لدولته من جديد.
وبالنظر لمصالح وحسابات اللاعبين الكبار على مسارح السلاح حول الموصل، فإن الصفقات غير مستبعدة على حساب العالم العربي المريض عند رسم الخرائط الجديدة.
وقد كان لافتاً إعلان وزير الدفاع الأمريكي «أشتون كارتر» عن خطة جاهزة واستعدادات تجرى لطرد آخر ل «داعش» من عاصمتها في «الرقة» السورية بغضون أسابيع، وربما قبل تحرير الموصل.
من الناحية العسكرية، فإن ذلك يساعد على حصار «داعش» وتصفية مراكز قوته ووضع كلمة النهاية لما يسمى ب«الدولة الإسلامية». غير أنه من الناحية السياسية فإننا سوف نجد أنفسنا في العالم العربي أمام حقائق جديدة تنبئ بخرائط مختلفة.
في نفس اللحظة التي تتأهب فيها قوات التحالف الأمريكي للتقدم إلى الرقة، ترفع القوات الروسية معدلات جهوزيتها لحسم معركة حلب، العاصمة السورية الثانية، وحسابات النار تتجاوز أي بيانات من هنا أو هناك، وتلك من مقدمات التقسيم.
أول معضلة في معركة الرقة، الاعتراض التركي على مشاركة وحدات حماية الشعب الكردية التي تصر الولايات المتحدة عليها. بالنسبة لتركيا فإنها تخشى أن تفضي تلك المشاركة إلى جائزة سياسية كبيرة على حسابها عند حسم المعارك الأخيرة ضد تمركزات «داعش».
في المشهد أدوار كردية - عراقية أساسية في معارك الموصل، واشتباكات في كركوك المدينة العراقية النفطية مع مسلحي «داعش».
بأقل الحسابات فإن كركوك سوف تضم إلى إقليم كردستان العراق الذي قد يحصل على استقلاله الكامل.
وبأعلى الحسابات فإنه يمكن تصور بناء دولة كردية في الإقليم تضم أكراد سوريا والعراق، وتتطلع لضم أكراد تركيا. ذلك يعني بالضبط مشروع تقويض للدولة التركية، ومن المحتمل للغاية أن تناصرها إيران لمنع مثل هذا السيناريو الذي قد يطولها تالياً.
يلفت الانتباه أن إيران أعلنت استعدادها للتوسط بين الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» ورئيس الوزراء العراقي «حيدر العبادي» لحلحلة الأزمة بينهما، وتمكين جيش الأول من المشاركة في معارك الموصل.
حسب الأوضاع على الأرض الآن، فإن إيران أكبر الرابحين، لكن لا أحد بوسعه أن يعرف ما قد يحدث غداً.
وتمركز بعض القوات التركية بالقرب من الموصل رسالة، واعتراضها على أي دور كردي في معركة الرقة رسالة أخرى. مفاد الرسالتين: نحن هنا وطرف مباشر في رسم أي خرائط جديدة، ولا شيء سوف يجري على حسابنا.
بنص تعبير «أردوغان»: «إذا كانت المسألة تتعلق بالحرب على «داعش»، فنحن جاهزون دون حاجة إلى وحدات حماية الشعب الكردي». غير أن الأمور ليست بمثل هذه البساطة. فللأمريكيين رهاناتهم على الأكراد، بما يؤشر إلى مشروع دولة أو جائزة سياسية تصحح ما تعرضوا له من تهميش قبل مئة عام في اتفاقية «سايكس بيكو»، لكن على أنقاض العالم العربي.
وللروس رهانات أخرى تتعلق مباشرة بحدود القوة والنفوذ في الإقليم ومعادلاته، دون أن يكون لهم موقف نهائي في أي ترتيبات مقبلة، كل شيء سوف يخضع للموازنات والصفقات وفق الحقائق على الأرض.
بمنطق الموازنات والصفقات قد لا يكسب الأكراد ما يتمنونه، غير أن سوريا والعراق واليمن وليبيا لن تعود كما كانت.
إذا ما مضى سيناريو الحسم المزدوج للرقة وحلب إلى آخره، فإننا سوف نكون أمام وضع يشبه - في رمزيته لا طبيعته - ما تعرضت له العاصمة الألمانية برلين عند نهايات الحرب العالمية الثانية، حيث اجتاحتها القوات الروسية من الشرق والقوات الأمريكية من الغرب، وعند خطوط التماس جرى تقسيم ألمانيا إلى ألمانيتين.
ليس هناك ما يمنع مثل هذا السيناريو، التقسيم بقوة الحضور المسلح للقوتين الكبيرتين وتقاسم المصالح مع اللاعبين الإقليميين، وربما لاعبين صغار يحملون السلاح.. بمعنى آخر، فإن حسم الحرب مع «داعش» بداية حقيقية لخرائط جديدة في المشرق العربي تمتد بزلازلها إلى مناطق أخرى.
وذلك يشبه في ظروف جديدة الوضع الذي كانت عليه الإمبراطورية العثمانية، رجل العالم المريض، عند تقسيمها وفق تفاهمات سرية بريطانية - فرنسية - روسية قبل أن تخرج موسكو من اللعبة كلها عقب الثورة البلشيفية (1917)، وأخرجت من أرشيفها ما يؤكد الصفقة الملعونة، التي اشتهرت باتفاقية «سايكس بيكو»، لتقسيم النفوذ بين الإمبراطوريتين السابقتين. لفترات طويلة نسبياً طرحت مشروعات التقسيم نفسها على مراكز الأبحاث، ونشرت خرائط متصورة لتقسيم العالم العربي في صحف أمريكية نافذة مثل «النيويورك تايمز» عام (2013)، التي توقعت تقسيم العراق وسوريا وليبيا ودول أخرى إلى (14) دويلة على أساس مذهبي وطائفي، وربما يرتفع الرقم بتدهور الأحوال المطرد في العالم العربي.
عند التقسيم المتوقع لن تكون هناك جامعة عربية أو نظام عربي آخر، ولن يسمح بحديث عن عمل عربي مشترك وتنكفئ مراكزه على نفسها، تتجرع حسرتها على ما آلت إليه.
أسوأ ما سوف يحدث أن التقسيم هذه المرة سوف يكون ب «البلطة» لا ب «الورقة والقلم»- حسب تشبيه الزعيم اللبناني «وليد جنبلاط».
يجب ألا ننسى أن وعد «بلفور» بوطن قومي لليهود على أرض فلسطين، أعقب توقيع اتفاقية التقسيم الأولى.
من المنتظر في عملية التقسيم الثانية إنهاء القضية الفلسطينية وأي حقوق في العودة، وتهويد القدس بالكامل، وضم مناطق واسعة من الضفة الغربية للدولة العبرية، إضافة إلى الجولان السورية.
السيناريوهات المرعبة تعلن عن نفسها دون أن تجد استجابة ما من رجل في غرفة عناية فائقة، لا يشعر بما حوله، ويعجز عن أي نهوض يقول فيه: «أنا هنا».
عن الخليج الاماراتية