عن تحالف صقور إسرائيل وأميركا

image-XOWNQXMF98LBU10D
حجم الخط

في مطلع تسعينيات القرن الماضي دخل العالم حقبة التفرد الأميركي بطموحاته الإمبراطورية، ووحشية نظامه «الليبرالي الجديد»، وأوهامه حول قدرة القوة العسكرية على التحكم بحركة التاريخ التي لا تعرف التوقف. إزاء ذاك التحول، وللدقة الاختلال، الكبير، ولأسباب مفهومة، لم يكن غريباً أن تكون إسرائيل أول المستفيدين، وأن تصبح الدول العربية أكثر دول العالم تضرراً بدءاً بـ»العدوان الثلاثيني» على العراق،1991، وصولاً إلى احتلاله، 2003. هنا، عوض مراجعة إستراتيجية الارتهان للولايات المتحدة الطامحة للعب دور «شرطي العالم المُطاع»، تورطت مراكز القوة العربية في المشاركة في العدوان على العراق، وأمعنت في التخلي عن واجبها القومي تجاه القضية الفلسطينية، متجاهلة أن ذلك يعادل تشجيع حكام إسرائيل الذين تجدد لديهم حلم لعب دور «شرطي المنطقة بلا منازع». فماذا كانت النتائج؟
   بعد ثلاث سنوات من احتلال العراق، ومن الخسائر البشرية والمادية الباهظة، شكل الحزبان الأميركيان «الجمهوري» و»الديمقراطي» في العام 2006 لجنة بيكر-هاملتون التي أوصت بإجراء مراجعة سياسية جوهرها: عجز القوة العسكرية عن حسم الحرب على العراق. انطوت المراجعة آنذاك على نقد ذاتي عكس  بداية اعتراف بحدود القوة العسكرية الأميركية، وبفشل سياسة «المحافظين الجدد»، حيث خسروا الانتخابات في دورتين متتاليتين لمصلحة الحزب الديمقراطي بقيادة أوباما الذي صار رمزاً لسياسة خارجية عمادها تسريع سحب الجيش الأميركي من العراق وأفغانستان، والإحجام عن شن حروب برية جديدة، وقصْر التدخلات العسكرية الأميركية على الضربات الجوية، والتركيز على الشؤون الداخلية ومعالجة الأزمة المالية الأميركية التي تحولت إلى أزمة اقتصادية عالمية، إنما من دون مغادرة إستراتيجية العمل على منع ولادة عالم متعدد الأقطاب وخسارة الولايات المتحدة مكانة القوة العظمى الأولى في العالم.  
   وبالمثل، بعد سنوات من العربدات العسكرية الإسرائيلية، شكل اعتراف «لجنة فينوغراد» بهزيمة عدوان 2006 على لبنان، فضلاً عن هروب الجيش الإسرائيلي عام 2000 من جنوب لبنان، تأكيداً جديداً على حدود قوة إسرائيل العسكرية، وعلى لا واقعية مقولات «الجيش الذي لا يقهر» و»إسرائيل الدولة القلعة»، كأساطير، كانت هزتها «حرب الاستنزاف» المصرية والعمليات الفدائية الفلسطينية بعد هزيمة 67، بينما بددتها، باعتراف «لجنة أغرانات»، النتائج الميدانية لحرب 1973، وصمود بيروت الأسطوري، 1982، والانتفاضتين «الأولى» و»الثانية»، وصولاً إلى فشل عدوان 2014 على قطاع غزة بالمعنى الميداني للكلمة. لكن الإقرار بتلك الحقائق الميدانية لم يفض إلى نشوء معارضة إسرائيلية تتبنى برنامجاً سياسياً يدعو إلى تسوية الصراع على أساس يلبي الحد الأدنى من الحقوق العربية والفلسطينية، بل إلى تعاظم دور المعسكر الصهيوني الأشد عنصرية وعدوانية وتوسعية داخل إسرائيل، مجتمعياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً.  
    لذلك كان من الطبيعي لدرجة البداهة أن تعجز سياسة إدارة أوباما وجهات سياسية وعسكرية وأمنية صهيونية، عن لجم تحالف «المحافظين الجدد» والمعسكر الصهيوني الذي يقوده نتنياهو، بوصفه، (التحالف)، التعبير عن سياسة أن استخدام القوة العسكرية هو وحده الكفيل باستعادة السيطرة الأميركية الإسرائيلية المطلقة على العالم والمنطقة. تبدى ذلك من خلال دعوات أقطاب هذا التحالف إلى شن عدوان عسكري أطلسي مباشر على سورية، ومن خلال رفضهم استبعاد الخيار العسكري في معالجة الملف النووي الإيراني، بل ورفض أي حل دبلوماسي له، ومن خلال دعوتهم إلى تصعيد أزمة أوكرانيا المفتعلة أصلاً إلى منتهاها، ومن خلال مطلبهم الاعتراف بإسرائيل «دولة للشعب اليهودي» المساوي لتصفية القضية الفلسطينية من جميع جوانبها.
   بل وكان من الطبيعي أكثر أن يدعم طرفا هذا التحالف بعضهما بصورة علنية وغير مسبوقة، حيث دعم المعسكر الصهيوني الذي يمثله نتنياهو مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأميركية السابقة، بينما تدعم كتلة «الجمهوريين» البرلمانية هذه الأيام حملة معسكر نتنياهو الانتخابية لدرجة ألا يُعلم الرئيس الأميركي ووزير خارجيته بأمر دعوة نتنياهو إلى الولايات المتحدة لإلقاء كلمة أمام «الكونغرس». وهو الأمر الذي أثار موجة غير مسبوقة من النقد والاحتجاج داخل الولايات المتحدة وإسرائيل. لم يخفِ نتنياهو أن هدفه الأساس هو تحريض أعضاء «الكونغرس» على فرض عقوبات جديدة على إيران، وعلى رفض أي اتفاق «دولي» بشأن ملفها النووي. طبعاً ليس لأن إيران أصبحت على عتبة «دولة نووية»، ولا لأنها تشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل، بل خشية خسارة ورقة إظهار أن الصراع مع إيران هو الصراع الأساس في المنطقة، أي خسارة أهم أوراق تهميش الصراع العربي الصهيوني، وجوهره القضية الفلسطينية. وتبلغ وقاحة نتنياهو أوجها في تحذيراته من خطر «النووي الإيراني»، بينما تحوز إسرائيل أكبر ترسانة نووية في المنطقة، إن لم تكن بين الأكبر عالمياً. هذا ناهيك أن هذه الترسانة لا تخضع، برعاية أميركية، لأي شكل من أشكال الرقابة الدولية.
   على أية حال، تتمثل مشكلة «المحافظين الجدد» والمعسكر الصهيوني الذي يمثله نتنياهو في أمرين: الأول هو أنهما يتجاهلان أن عنجهية حروب «المحافظين الجدد»، وخيالية طموحاتهم الإمبراطورية، ووحشية سياستهم الليبرالية الجديدة، كانت الاسباب الاساسية خلف انفجار الأزمة المالية الأميركية وتحولها إلى أزمة اقتصادية عالمية، وخلف بروز أقطاب دولية وإقليمية جديدة ترفض التفرد الأميركي في إدارة العالم. وأن هذه الأسباب، وليس تردد أوباما كما يشيع هذان الحليفان، ما فرض إحجام الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة عن شن حروب برية جديدة، وحصر تدخلاتها العسكرية في العالم على الضربات الجوية.
أما الثاني فهو أنهما يتجاهلان أن عنجهية قادة إسرائيل لدرجة ورفضهم لأي «حل وسط» للصراع، فضلاً عن جنون تكثيفهم لعمليات الاستيطان والتهويد، ووحشية لجوئهم إلى حروب المجازر والمذابح والإبادة الجماعية والتدمير الشامل بعدما صار جيشهم عاجزاً عن تحقيق نصر حاسم لا لبس فيه في الحروب البرية، هي الأسباب الأساسية خلف ما تواجهه إسرائيل منذ سنوات من عزلة سياسية وحملات مقاطعة اقتصادية وأكاديمية عالمية، ومن عداء شعبي حتى لدى شعوب الدول «الغربية». ماذا يعني هذا الكلام؟
 إن اعتقاد طرفيْ هذا التحالف بقدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على استعادة ما خسرتاه من دور بفعل التحولات العاصفة في العالم والمنطقة، أمر وارد بعودة «المحافظين الجدد» للسلطة في الولايات المتحدة، وبقاء المعسكر الصهيوني الذي يمثله نتنياهو في سدة الحكم، بينما الحقيقة هي أن هذا الاعتقاد إن هو إلا تشبث بأوهام الأيديولوجيا، أي بإحلال الفكرة محل الواقع، كأنها هو. لكن الثابت في الحالات كافه هو أن هذا الاعتقاد ليس إلا تعبيراً عن مقتضيات المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العدواني التوسعي، ونتيجة طبيعية للدعم الأميركي المطلق لهذا المشروع، ذلك كي لا نقول تعبيراً عن تشابه الأساس الفكري لما ارتكب من تطهير عرقي  بحق السكان الأصليين لما بات يُعرف الولايات المتحدة، ولما ارتكب بحق الشعب العربي الفلسطيني من تطهير عرقي مماثل على مدار ما يقرب من قرن من الزمان.
   بقي القول: مثلما أن «العطار لا يصلح ما أفسد الدهر»، فإن بقاء نتنياهو الشخص والحزب والمعسكر في سدة الحكم لن يخرج إسرائيل من أزماتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية والأمنية، بل وسيفاقمها، وإن عودة «المحافظين الجدد» إلى حكم الولايات المتحدة لن يفضي إلا إلى استعادة الأزمة الأميركية ذاتها، وإلى تشكيل لجنة جديدة لتقديم التوصيات ذاتها التي قدمتها لجنة بيكر-هاملتون، وشكلت المقدمة لفوز أوباما في دورتين انتخابيتين متتاليتين. ما يعني أننا أمام حاجة إلى البحث في أن الأزمات الناجمة عن أسباب بنيوية لا تُعالج بتغيير الشخوص، إنما بتغيير الرؤى والسياسات، وفي أن القوة العسكرية، حتى لو كانت بضخامة ما تحوزه الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل، لا تقوى لا على التحكم بحركة التاريخ، ولا على ضبط حركة شعوب العالم والمنطقة الموجوعة بالمعنى الشامل للكلمة بوحشية سياسة «الليبرالية الجديدة» وبحروب نظام «القطب الواحد» المباشرة منها وغير المباشرة، وبعربدة حكام إسرائيل المستندة إلى الدعم الأميركي المطلق.