للمرة الأولى منذ سنوات الانقسام، يتحرك القطاع الخاص الفلسطيني في قطاع غزة، على نحو فاعل، مقتحماً الجمود الذي يسود الوضع، ويقدم نفسه كفاعل مجتمعي ذي وزن. قبل ذلك كان القطاع الخاص قد تحرك، بعد حرب 2014، معبراً عن اعتراضه على خطة المبعوث الأممي روبرت سري، التي وفرت الغطاء الدولي الذي تحتاجه إسرائيل لمواصلة حصارها على القطاع، والتحكم في عملية إعادة الإعمار.
خطة روبرت سري التي تمت بموافقة إسرائيلية وفلسطينية رسمية، قوبلت برفض واسع حتى من قبل الضحايا أصحاب البيوت والمؤسسات التي دمرتها تلك الحرب الطويلة البشعة، فلقد جعلت إسرائيل تتحكم في كميات وأنواع مواد البناء، ومراقبة حركة هذه المواد، بذريعة منع وصولها إلى المقاومة لبناء وإعادة ترميم الأنفاق، ولكن أيضاً لمنع من تصنفهم إسرائيل بالإرهابيين من الاستفادة لإعادة بناء بيوتهم المدمرة.
أفضل التقديرات كانت تشير إلى أن عملية إعادة الإعمار تتطلب عشر سنوات على الأقل، وذلك استناداً لآلية سري، وأيضاً استناداً لتجربة إعادة البناء التي لم تستكمل بعد حرب 2008، حيث تشهد مئات المنازل المدمرة منذ تلك الحرب على تخلف المجتمع الدولي عن تنفيذ قرارات مؤتمر شرم الشيخ الذي انعقد العام 2009، وأقر خطة وميزانية لإعادة الإعمار.
يشكو القطاع الخاص والتجاري في القطاع من أن السلطات الإسرائيلية تعتقل العديد من التجار على معبر بيت حانون، وتضع آخرين على قوائمها السوداء، وتمنع عن البعض الحصول على تصاريح استيراد، فضلاً عن التمييز الواضح بين تاجر وآخر.
أما الشكوى الأساسية فتتصل ببطء عملية توريد مواد البناء، حيث لا يصل إلى القطاع يومياً أكثر من ثلاثة آلاف طن من الإسمنت، من أصل عشرة آلاف طن هي حاجة القطاع لإنجاز عملية إعادة الإعمار خلال فترة زمنية معقولة ولا نقول خلال فترة قصيرة.
قبل ذلك، كان القطاع الخاص قد اشتكى بمرارة، خلال مرحلة اقتصاد الأنفاق، التي شهدت صعود تجار جدد جنوا مئات الملايين من الدولارات، فيما كان التجار التقليديون، يستنزفون رؤوس أموالهم، دون أن يتمكنوا من تفعيل دورهم ولو بحدود دنيا، وكانت عملية التغيير تبدو وكأنها تتقصد إزاحة أصحاب رؤوس الأموال التقليديين، واستبدالهم بنخب جديدة.
اليوم يصرخ ممثلو القطاع الخاص ويقيمون ائتلافاً واسعاً تحت مسمى اللجنة التنسيقية، ويضم كل العاملين في القطاع الخاص التجاري والصناعي، بالإضافة إلى النقابات وممثلي المجتمع المدني، لا لكي يحتجوا على الإجراءات الاحتلالية وخطة سري فقط وإنما أيضاً لكي يضيفوا جهدهم الكبير إلى الجهد الوطني العام الذي يسعى لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة.
يضفي تحرك هذا القطاع أبعاداً حقيقية ملموسة لكل الحديث النظري الاجتماعي والسياسي، الذي يربط بقوة بين المخاطر الناجمة عن المخططات والسياسات الاحتلالية، وتلك الناجمة عن وقوع واستمرار الانقسام.
الجهد الذي يقدمه القطاع الخاص في مجال مقاومة الاحتلال والنضال لإنهاء الانقسام، هذا الجهد من المتوقع أن يشكل إضافة نوعية إلى الجهد الذي تقوم به الفصائل، ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة، وحراك «وطنيون لإنهاء الانقسام»، فإذا تواصل هذا الجهد، فإن بإمكانه أن يترك آثاراً إيجابية فاعلة تتجاوز الآثار التي يتركها جهد الفصائل، التي لم تنجح حتى الآن في كسر حدة الاستقطاب الثنائي، وتوفير كتلة ضغط على طرفي الانقسام.
ولكن إذا كانت الإجراءات الإسرائيلية مستمرة منذ توقف الحرب الأخيرة، وإذا كان كل فلسطيني يدرك منذ زمن ماهية ومخرجات خطة سري لإعادة الإعمار؟ فمن هو الجديد الذي حفز القطاع الخاص على التحرك في هذا الوقت؟
أولاً: المعاناة الشديدة التي يواجهها رجال الأعمال والتجار جراء الإجراءات الإسرائيلية، التي تتحكم في سوق التجارة وفرسانها، خصوصاً بعد أن أوقفت الدوائر الاحتلالية التصاريح الممنوحة لموظفي الشؤون المدنية في قطاع غزة، ما يجعل هؤلاء التجار ورجال الأعمال فريسة للتعامل المباشر كسياسة يتجه نحو فرضها الاحتلال مع سكان الأراضي المحتلة بالقفز عن السلطة ومؤسساتها.
هنا يدخل الموقف الوطني للقطاع الخاص، والذي يتداخل بقوة مع المصالح الخاصة. لا يقبل القطاع الخاص الفلسطيني عموماً بأن يبحث عن مصالحه الخاصة على حساب المصالح الوطنية.
ثانيا: ثمة ركود اقتصادي تتعمق آثاره على مصالح التجار والمزارعين والصناعيين، فضلاً عن الإرهاق الذي تتسبب فيه الضرائب التي تفرضها كل السلطات: سلطة الاحتلال، والسلطة الوطنية وسلطة الأمر الواقع التي تديرها حركة «حماس» في قطاع غزة.
ثالثا: تبدو الآفاق لتحسن الأوضاع الاقتصادية في القطاع، وكأنها مغلقة، وتدعو إلى اليأس والإحباط، خصوصاً في ضوء استمرار حالة الانقسام، الذي يضاعف المآسي المتولدة من الاحتلال، ويهدد المشروع الوطني الفلسطيني بما ينطوي عليه استمرار الوضع على مخاطر تتعلق بجودة الحياة وبتوفر الحد الأدنى من عوامل الصمود.
رابعا: تتيح السياسة المصرية كما ظهرت عناوينها في الأسابيع الأخيرة فرصة لتخفيف الحصار على قطاع غزة، حيث تبدي مصر اهتماماً ملحوظاً وغير مسبوق بالتفاعل النشط سياسياً واجتماعياً واقتصادياً مع الفلسطينيين، خصوصاً جوارها في قطاع غزة. تتجه مصر نحو توسيع وتطوير معبر رفح، وتحسين الخدمة فيه، وتقريب فترات فتحه، ما سيتيح تنشيط التجارة والتعامل الاقتصادي والإنساني والسياسي، والقفز عن تداعيات الانقسام وآلة الاستقطاب السياسي بين أطرافه.
بعد فتح المعبر أكثر من مرة هذا الشهر، ثمة ترتيب لفتحه مجدداً لحل مشكلة الطلاب العالقين دفعة واحدة، يتبع ذلك توسيع عملية الحوار المباشر حيث يجري الحديث عن دعوة عشرات رجال الأعمال والقطاع الخاص للبحث في شروط وآليات تحسين التبادل التجاري.
إذا كانت هذه هي العوامل التي تقف وراء النشاط القوي في هذا الوقت للقطاع الخاص، الذي يستند إلى تحالفات واسعة تجمعها مصالح مشتركة، فإن المرحلة القريبة القادمة مرشحة لأن تشهد المزيد من الفعاليات المؤثرة، التي تجعل المجتمع في غزة، بكل فئاته وشرائحه الشعبية والنخبوية، يقف في مربع واحد لرفض ومقاومة استمرار الانقسام.
يمكن لهذا الحراك أن يحرك لاحقاً، صناع القرار في السلطة والمنظمة نحو مغادرة منطق التجاهل والتهميش، والإهمال الذي يشعر به ويشكو منه كل سكان قطاع غزة، منذ أن وقع الانقسام بما يخلق مناخاً وطنياً عاماً متفاعلاً ومتداخلاً مع الأوضاع العربية المحيطة لمواجهة التحديات التي تفرضها المخططات الإسرائيلية.