غرابة الانتخابات الأميركية ودرسها الأبرز..!

أكرم عطا الله
حجم الخط

عجيبة هي الانتخابات الأميركية وتفاصيلها مثيرة للدهشة؛ فهي تتم بطقوس قديمة جداً كما أجريت أول انتخابات في الولايات المتحدة، وكانت آنذاك ثلاث عشرة ولاية، ولا زالت تلك الطقوس حاضرة بتفاصيلها رغم ما تم اختراعه من وسائل حديثة تُمكِّن الأميركيين من إحداث تغييرات هائلة، وبالمقابل تجري بمضمون يبدو الأكثر حداثة والأكثر ديمقراطية، وما بين التفاصيل القديمة والحديثة قصة طويلة.
إن تَقف أمام صندوق انتخابي في أميركا تُصب بالدهشة عندما ترى الناخب الأميركي يحمل دفتراً انتخابياً تزيد صفحاته على الاثنتي عشرة وتحمل كل صفحة فيه خياراً انتخابياً لا بد وأن يقوم باختياره، فكل شيء هناك منتخب.. الرئيس، ونائب الرئيس، والكونغرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب) وبرلمان الولاية، وحاكم الولاية، وهو بمثابة رئيس الدولة فيها.
ربما هذا موجود في العالم، لكن في الولايات المتحدة ينتخب الأميركي قائد الشرطة الذي نعرفه بـ «الشريف» في الأفلام الأميركية، وكذلك والأهم مدعي عام الولاية الذي يمثل القانون، وهنا كلمة السر في قوة القضاء الأميركي  حيث يعطى تفويضاً مباشراً من الشعب، يعطيه ما يكفي من القوة لملاحقة الجرائم وحتى ملاحقة الرئيس، ونذكر أن هذا التفويض جعل القاضي كينيث ستار يلاحق الرئيس السابق كلينتون عندما كان حاكماً لولاية أركنسو.
ولأن القضاء منتخب فهو سلطة حقيقية وليست صورية كما في العالم العربي حيث يتم بالتعيين، إذ يبقى الزعيم صاحب فضل على القاضي وولياً لنعمته كما يقولون، ويستطيع أن يعين غيره متى شاء، إذ تستمد قوة القاضي هناك من قوة ناخبيه وشعبه، وعندما نعرف أن قائد الشرطة أيضاً كذلك نعرف كيف تتم ملاحقة الفاسدين من مسؤولين ووزراء وأعضاء برلمان.. من هنا يبدأ استقلال القضاء وفصل السلطات ومن هنا يبدأ القانون عندما يتمكن الشرطي من تفتيش بيت الرئيس.
تلك التقاليد الحديثة، لكن بالمقابل فإن التقاليد القديمة بقيت كما هي منذ أن أجريت أول انتخابات أميركية في العام 1789، بعد إعلان الولايات المتحدة استقلالها بثلاثة عشر عاماً، وقبل الاستقلال النهائي بست سنوات، حين أصبح آنذاك ثلاث عشرة ولاية فقط مستقلة من جميع الولايات الخمسين، حيث جرى اختيار جورج واشنطن الرئيس الأول للولايات المتحدة، وهو الرئيس الوحيد المستقل في تاريخ أميركا، وبعده أصبح الرؤساء الـ 43 إما من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري.
لكن المثير حقاً هو أن الانتخابات تجري وفقاً للتقاليد وبلا تاريخ محدد، إذ ينص القانون الأميركي على أن تتم، في يوم الثلاثاء من الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني كل أربع سنوات، ويسمونه «الثلاثاء الكبير». أما لماذا يوم الثلاثاء؟ لأنه حين جرت أول انتخابات في أميركا كانت أغلبية السكان مزارعين يعيشون في قرى بعيدة عن مراكز المدن التي تجري فيها الانتخابات، وكانت المواصلات بدائية، إذ كان المزارعون يذهبون للكنائس يوم الأحد، ويسافرون يوم الإثنين، ثم يقترعون يوم الثلاثاء، ويعودون الأربعاء إلى بيوتهم.
ولأن المواصلات بدائية أيضاً، بعد أن تحصى الأصوات يقوم المنتخبون والذين يطلق عليهم المجمع الانتخابي، الذي يبلغ عددهم حالياً 538، بالإدلاء بأصواتهم، يوم الإثنين الذي يعقب الأربعاء الأول من شهر كانون الأول، بانتخاب الرئيس، وبعد ذلك وما يستغرقه من وقت ترسل الأصوات إلى واشنطن ليتم فرزها في العشرين من الشهر الذي يليه، أي كانون الثاني من العام الجديد.
تلك الطقوس بقيت كما هي، إذ يتم تنصيب الرئيس بعد حوالى شهرين ونصف الشهر من الاقتراع، وكان ذلك مرتبطاً بالعربات التي تجرها الخيول والتي تشق الطرقات الوعرة حاملة صناديق الاقتراع رغم كل الاختراعات الحديثة التي تمكن من فرز الأصوات إلكترونياً لحظة إغلاق آخر صندوق، فلا إحصاء يدوي، هناك يصوتون بأوراق مخرومة يفرزها الكمبيوتر.
والغريب أيضاً هو أن المشاركة السياسية للمواطن الأميركي متحققة في الانتخابات وأعلى منها في أوروبا، التي تعتبر مدرسة الديمقراطية، فلكل ولاية قوانينها الخاصة غير القانون العامن ولكل ولاية رئيس وبرلمان، لكن المواطنين الأميركيين أنفسهم يشاركون بإقرار القوانين وتعديلها أو إلغائها، حيث يمكن لأي جمعية أن تجمع ثلاثين ألف توقيع، وهذا يلزم لجنة الانتخابات بوضع مقترح القانون أو التعديل أو الإلغاء في دفتر الانتخابات للتصويت عليه من قبل الشعب، وهذا يفسر الصفحات المتعددة لدفتر الانتخابات الذي يشمل مقترحات قوانين، ولا يمكن لبرلمان الولاية إلغاؤها، وقد يلغي تصويت الشعب قوانين كان قد أقرها برلمان الولاية.
تلك تجربة تدعو للتأمل. صحيح أن سلوك الولايات المتحدة تجاه الدول الأخرى يخلو من أي ممارسة ديمقراطية أو احترام لخيارات الشعوب أحياناً كثيرة، بالإضافة لاستخدام القوة لفرض خيارتها، وكذلك بدعمها لإسرائيل الذي تسبب لها بكل تلك الكراهية في العالم العربي، لكن على الصعيد الداخلي يمكن القول: إن الولايات المتحدة تفوقت على الديمقراطيات العريقة في: أنظمتها الداخلية، وعلاقة المواطن بالسلطة، والمشاركة السياسية، والرقابة، والمحاسبة، والفصل الحقيقي بين السلطات، جميعها قوية لأن جميعها منتخبة.
لم نفكر نحن في العالم العربي، رغم التجربة البائسة التي أتخمها الفساد وأنهكها الاستبداد وتحولت إلى كومة من الخراب وسط صراع على السلطة بين أبنائها والذي لم تنظمه القوانين... نحن الذين ننادي بتطبيق القانون وتحقيق العدالة لم نفكر لمرة واحدة بانتخاب النائب العام الذي عليه أن يلاحق الرئيس والوزير والمسؤول.. كيف نثق بقدرته على الملاحقة وهو يدخل أقوى منصب مهزوزاً ضعيفاً بتعيين الرئيس له.
أما نحن الفلسطينيون، فمن المبكر أن نتحدث عن ذلك لأن بيننا وبين الانتخابات بينونة كبرى، وحين تصبح قريبة، حينها يمكن استعراض تجارب الآخرين والاستفادة من التفاصيل.
إن ذلك ترف سياسي قياساً بما هو قائم، ولكن حتى لا نحمل المسؤولين وحدهم كما اعتدنا ونعفي أنفسنا.. ماذا لو أعطينا نحن المواطنين حق إقرار القوانين؟ يخشى من أن نحول الأوطان إلى ركام لأن التجربة في العالم العربي تقول: إن المسؤول هو ابن بيئة وثقافة نفس المواطن، لذا لم يكن غريباً أن يتداول الحكم عدة أنظمة وتبقى الشعوب والدول كما هي عليه؛ لأن الجميع متشابهون بالثقافة... لكن ذلك لا يعني ألا نجرب أو نستفيد.