مصر في محنة. ليست الأولى، وقد لا تكون الأخيرة. وأصعب المحن هي المتعلقة بالرزق والحياة وعشاء الأطفال. ومن السهل أن تصور الأزمة على أنها مسؤولية الحكومة. والحق يقال إنها مسؤولية الحكومة شاءت أم أبت، فلا مهرب. لكن الحكومة لم تنادِ على الأزمة، ولم توجه لها الدعوة للحضور من كل الأبواب دفعة واحدة.
الإجراءات التي اتخذت (أيضًا في السودان) بتعويم الجنيه، استنكرها المصريون المتضررون، لكن رحب بها البنك الدولي الذي سوف يتولى، في نهاية الأمر، إنعاش حركة الاقتصاد وتعويم حركة الإنتاج. مثل ذلك مثل الجراحة التي لا بد منها مهما بدا الأمر مؤلمًا. لكن على مصر أن تبدأ رحلة الخروج من العثار الاقتصادي المزمن، في مرحلة ما، في قرار ما. وليس في إمكان الحكومة أن تطلب من الفقراء أن يتحملوا أكثر مما يتحملون. لكن فظاظة الواقع في كل مكان وزمان، هي أن الطبقة العاثرة والوسطى، تتحمل الوجع الأكبر، فبماذا تعللها؟ بالأيام الآتية؟
أزمة الجنيه الطائر ليست ابنة اليوم. أزمة الوقود والدعم، ليست من الأمس. بل السبب كان دومًا تحاشي التخطيط المستقبلي أو العجز عنه، والوقوع في دوامات الخطوات الصغيرة التي لا تشكل اقتصادًا كبيرًا أو منيعًا. وكانت مسؤولية النظام عدم استبقاء الناجحين مثل الدكتور كمال الجنزوري، أو الدكتور يوسف غالي. أو حتى الاستعانة بخبراء من الخارج، كما فعلت مارغريت ثاتشر دون أي تردد. أو كما عينت بريطانيا كنديًا حاكمًا للبنك المركزي، تاج التاج في البلاد.
المعارضة أيضًا يجب أن تدرك في هذه المحنة مسؤوليتها كمعارضة وطنية. فاغتيال الضباط والقضاة خيانة عظمى وثأر صغير. ومعركتها الكبرى ليست مع نقاط الضعف في النظام، بل في البحث عن نقاط قوة لكل مصر. وربما كان من المفيد أن تعيد الحكومة النظر في جميع المشاريع البعيدة المدى، مهما كان ذلك مؤلمًا. صحيح أن مصر دولة كبرى، لكن ربما كان في إمكانها تأجيل الحصول على حاملة طائرات. وصحيح أن البيروقراطية المصرية جزء أساسي من الأزمة الدائمة، ولكن ثمة ضرورات أكثر أهمية وعجلة من «العاصمة الإدارية» الجديدة.
محنة ومتاهة. فمن أين نبدأ؟ لا بد أن المسؤولين أصغوا إلى الرئيس السنغافوري الذي زار القاهرة قبل أسبوعين. لا بد من البدء في مكان ما. والأمن الاقتصادي هو الأمن الوطني. والجنيه، في نهاية المطاف، هو الرغيف. والحل هو أن تتحمل كل مصر مسؤولية هذه المرحلة، وليس أن يتسلل المتسللون إلى الضباط والقضاة من ثقوب الرغيف.
عن الشرق الأوسط