قبل نحو شهر، تلقيت عبر بريدي الإلكتروني رسالة من السفارة اليابانية في عمّان، جاء فيها أن شخصا من الملحقية الثقافية بالسفارة يرغب بمقابلتي، وعليّ إن وافقت، أن أحدد موعدا مناسبا، لأنه سيأتي إلى فلسطين خصيصا لهذا الغرض.. شكرتهم على الرسالة، ورحبتُ باللقاء.. لكني لا أخفي أن شعوراً بالقلق والفضول انتابني؛ فما الذي يريدونه مني؟ المهم، حضر الياباني كما هو متوقع في الموعد المحدد، وبعد التعارف، أوضح لي أنه يريد مناقشتي بموضوع موجة الإرهاب والعنف التي تجتاح المنطقة.. ثم أخرج من حقيبته بعضاً من مقالاتي المنشورة على "الأيام"، والتي لها علاقة بالموضوع.. موضحاً، بأن الحكومة اليابانية بدأت تهتم بموضوع الإرهاب بشكل خاص بعد مقتل مواطنين يابانيين على يد "داعش" في سورية.
وعلى مدى ساعتين من النقاش (بالعربية الفصيحة)، تبين لي أن اليابان تشعر بالقلق البالغ من تصاعد أعمال العنف في الشرق الأوسط، وأن وراء اهتمامها سببين: الأول خشيتها من امتداد الإرهاب عالميا، وإمكانية تأثير ذلك على مصالحها في المنطقة، والثاني: خشيتها من تأثير ذلك على السلم الأهلي في اليابان، وتحديداً انعكاس ذلك على الرأي العام الياباني، بحيث يتخذ اليابانيون موقفا سلبيا من الإسلام، وبالتالي إساءة البعض منهم للجاليات المسلمة هناك، لاسيما بعد أن حصلت أعمال عنف عنصرية في أوروبا وأميركا، وبلدان أخرى تعيش فيها جاليات مسلمة.
فهمتُ من حديثه بأن الحكومة اليابانية تريد أن تفهم أسباب وحيثيات الإرهاب (الإسلامي) لكي تضع برامج وخططاً معينة لمواجهة الظاهرة، ومن أجل ذلك كلفت جهة محددة لدراسة الموضوع من جوانبه كافة، وخصصت لها الموازنات المطلوبة.
ومن بين بنود الخطة اليابانية تكليف أشخاص معينين بتعلم اللغة العربية، ودراسة التاريخ والتراث الإسلامي، وإيفادهم للمنطقة، لمقابلة الناس، وفهم الأمر ميدانيا، وبشكل واقعي.. وقد لمست ذلك من خلال إتقان ضيفي للعربية، وثقافته الواسعة، ومعرفته للكثير من التفاصيل، بشكل معمق واعٍ، بعيداً عن التسطيح والشعبوية، والعناوين المثيرة.
من جهتي، بذلت كل ما بوسعي لشرح الصورة دون تنميق أو تزوير، من باب الأمانة أولاً، واحتراماً للثقة التي أولوني إياها ثانيا.. ومن بين الأمور التي ركزت عليها، أن القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع، وجذر المشاكل في المنطقة والعالم، وأن الغرب عامة يتحمل جزءًا من مسؤولية ما يحدث، وبالذات بسبب الغطرسة الإسرائيلية، والانحياز الأميركي، وتواطؤ المجتمع الدولي مع الجرائم الإسرائيلية، وأيضا بسبب الاستبداد والقمع السلطوي لدى الأنظمة العربية، وأن هذه من بين أهم أسباب نشوء وتفاقم ظاهرة العنف.. علما أن ضيفي كان يركز على محاولات فهم الجذور التاريخية والفكرية للظاهرة..
موضوع النقاش - رغم أهميته - ليس هو ما أود طرحه في هذه المقالة؛ ما يعنيني الآن هو دراسة كيفية التصرف الياباني إزاء ظاهرة عالمية خطيرة؛ فالحكومة اليابانية تحركت على الفور، ووضعت خططاً وبرامج، وخصصت موازنات كبيرة لمجرد مقتل مواطنيْن لها خارج البلاد.. وهذا لا يدل على مدى حرص اليابان على مواطنيها وحسب؛ بل وحرصها أيضا على الجاليات الأجنبية التي تتواجد على أراضيها.. ويبين مدى امتلاكها عقلية متفتحة متسامحة، تريد أن تدرس ذهنية من اعتدى عليها، حتى تفهم دوافعه ومسبباته، بدلا من تحريك الجيوش، أو تأليب الرأي العام، وتحريض الجمهور على كراهية (الأعداء).. السؤال الذي آلمني خلال الحديث: كم يجب أن يصل عدد الضحايا في البلدان العربية حتى تتحرك الحكومات والنخب والمنظمات العربية؟! ولا أقصد تحريك جيوشها ضد الشعوب كما يحدث الآن، بل تحركها الواعي والأمين، وبالطريقة الصحيحة.
الملاحظة الثانية، أن التحرك الياباني (وخلافا للكثير من دول العالم) كان تحركا عقلانيا هادئا مبنيا على أسس علمية، وبطريقة منظمة، ولم يكن على الطريقة الأمنية القمعية، ولم يكن رد فعل متشنجاً وعصبياً وغوغائياً..
هذا درس مهم، من بلد اكتوى بنيران الحروب، واختبر الدمار والخراب، وأدرك أهمية وقيمة السلام والأمن، وتجنُّب المواجهات العسكرية بأي شكل.. وهو ليس الدرس الأول الذي تقدمه اليابان للعالم؛ على سبيل المثال، "هيروشيما"، التي تعرضت لقنبلة ذرية، ومُسحت عن الأرض، لن تجد فيها اليوم (كما هو متوقع) تلك الروح العدائية تجاه أميركا، ولن تسمع من أحد عن ذكريات الموت والدمار، ستجد بدلا من ذلك روح المدينة المفعمة بالحيوية والتجدد. ويعود الفضل في ذلك لجماعة تُعرف بـ "الهيباكوشا"، وهم ممن نجوا من الضربة النووية، لكنهم استخلصوا العبر من أخطاء اليابان الإمبريالية، وتغلبوا على العذاب والألم، وتمسكوا بإنسانيتهم، واختاروا الحياة بدلا من الانقياد لرغبات الانتقام، يحدوهم الأمل بمستقبل لا يعرف الحروب، وتمكنوا من فرض رؤاهم على سياسات ودستور الدولة، لتعمل على بناء صرح السلام العالمي القائم على العدل والثقة والتعاون بين الشعوب، ونبذ العنف والكراهية والعنصرية.
ستجد صورة مشابهة لهيروشيما في الجبل الأولمبي في ميونيخ، حيث اختار الألمان الحياة بدلا من العنف، بعد درس الهزيمة القاسي في الحرب العالمية الثانية، حيث جمعوا كل حطام المدينة، وأشلاء البنايات المدمرة، وأخفوها تحت أكوام من التراب، ثم زرعوا فوقها حديقة غنّاء، في رمزية مدهشة لاختيار الحياة والمستقبل، بدلا من ذكريات الحرب، والخراب، وصرخات الثأر المكبوتة..
إذا أردنا أن نتعلم الدرس، علينا أن نجمع كل حطام حلب والموصل ودمشق وبغداد وصنعاء وبيروت والقاهرة.... ومعها كل ثارات تاريخنا "الدموي"، وكل شعاراتنا العنترية.. وندفنها في الصحراء.. لعلنا نبني بدلا منها مدن المستقبل..
المشكلة أن شعوبنا، وأنظمتنا وأحزابنا لا تتعلم من دروس الآخرين، ولا حتى من دروسها الشخصية.
طرق التعامل مع الزوجة التي لا تحترم زوجها
06 أكتوبر 2023