في مشهد تاريخي، من حيث غرابته، فاز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية؛ فشخص اتهم بالحمق، والتحرش السافر بالنساء، والبذاءة، ووجود علامات استفهام حول استثماراته، ودفعه للضرائب، ويتبنى خطابا معاديا للمهاجرين، ويطرح تصورات عنصرية ضد الأديان الأخرى، ورفضته أغلب النخب السياسية والإعلامية الأميركية، بما في ذلك قيادات حزبه الجمهوري، يحظى بتأييد الشارع الأميركي، فيما يبدو أنّه تجسيد لما أسماه العدد الأخير من مجلة فورين أفيرز، الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي باسم، "الشعبوية".
مع أنباء فوزه تراجعت أسعار النفط، والدولار، وارتفع سعر الذهب وانخفضت البورصات الرئيسية في العالم، وهذا يعني خوف المستثمرين في الأسواق، وتفضيلهم الاستثمار الأبعد مدى، والأضمن، (الذهب)، ويعني خوفهم من التداعيات الاستثمارية والأمنية لفوز ترامب، ما يعني "تصويتاً" خائفاً من قبل نخب المال والاستثمار، يخالف التصويت الشعبي الأميركي، أو على الأقل تصويت الناخبين الأنجلو ساكسون الأميركيين (من أصول أوروبية بيضاء).
إذا ما تراجعت إمبراطورية عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية، (وهي في تراجع منذ سنوات فعلا)، فهذا ما قد يكون فرصة لكل القوى الطامحة، والدول والشعوب، التي تعاني من هيمنة هذه القوة، لتجد لطموحاتها آمالاً. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة.
فبداية كيف سيكون أداء ترامب؟ هل سيبدأ بفوز ترامب عصرٌ فيه أحداث درامية؟ أم أنّ المؤسسة الأميركية، والنخب التقليدية، قادرة على التواجد والعمل، للحفاظ على وتيرة من العمل السياسي داخلياً وخارجياً يقلص من الآثار المحتملة قياساً على شخصية ترامب، وجعل السياسات الخارجية متدرجة ومدروسة؟
بعد هذا يصبح هناك سؤال، وهو، إذا اتجه ترامب فعلا لسياسات راديكالية، وهو كرئيس يمكن له أن يفعل الكثير فعلا، فإنّ السؤال يصبح، هل هذا على المستوى الداخلي (الذي يحتل الاهتمام الأميركي في السنوات الأخيرة أكثر نسبيا من الماضي)، أم الخارجي، أم كليهما؟
ثم يصبح السؤال، بأي اتجاه ستكون الراديكالية (إذا حدثت ذلك) فترامب قد يحاول أن يكون هجومياً، في السياسة الدولية، (كما هي شخصيته)، وقد يحقق نتائج وتقدما للإمبراطورية الأميركية، فيحسم نزاعات في بعض المناطق، ويردع قوى، ولكن قد يكون هذا أشبه بمغامرة جديدة، كالتي فشل فيها جورج بوش الابن (2001 - 2009) في العراق، وأفغانستان، وقبله بل كلنتون في الصومال، مطلع التسعينيات. وبالتالي تستمر حالة الاضطراب العالمي الراهن، خصوصا في الشرق الأوسط، ويقفز شعبويون عرب ومسلمون، وغيرهم من الشعبويين، في وجه ترامب، (أي يقفز للمشهد أكثر من هو على شاكلته وإن كانوا من خصومه ويبنون مجدهم على مهاجمة الأميركان). وأحد السيناريوهات مثلا، أن يتفق ترامب مع صديقه الروسي، فلاديمير بوتين، ويحسما النزاع في سورية، (لصالح نظام بشار الأسد).
أما التراجع البطيء للولايات المتحدة، وانكماش دورها العالمي، على غرار ما حدث إبان رئاسة باراك أوباما المقتربة من نهايتها، وتركيزها على الشأن الداخلي، فهذا يعني نوعا من الفراغ، وبالتالي هو فرصة لمن أراد لعب دور عالمي، والتخلص من الهيمنة الأميركية، ولكن الحقيقة، أنّ الفراغ إذا حدث دون أن يملأه أحد، وبطريقة منظمة، يؤدي إلى فوضى عالمية، تؤدي إلى الكثير من الاضطراب، والمشكلات، على غرار ما يحدث في سورية، من أزمة لا يحسمها الأميركيون، ولا يوجد أمم متحدة، أو نظام دولي، أو اقليمي عربي، قادر على التدخل الفاعل، فتنتشر "الدواعش".
هناك الكثير مما يجدر انتظاره قبل الحكم على نتيجة فوز دونالد ترامب، ولكن من شبه المؤكد أننا مقبلون على مرحلة عالمية، فيها الكثير من الشعبوية، أي بروز الكثير من السياسيين، والتنظيمات، التي تلعب على وتر الغرائز والانقسامات والعنف في العالم.
فيما نقلته في مقال قبل أسبوعين، عن طرح "الفورين أفيرز" سالف الذكر، فإنّ الشعبوية تتضمن "الاشتباه والعداء، نحو النخب، والسياسات السائدة، والمؤسسات القديمة"، و"ترى الشعبوية نفسها متحدثة باسم المنسيين، من الناس العاديين، وتقدم نفسها على أنها صوت الوطنية الصادقة. وأنها الدواء الوحيد لعقود من الحكم الكارثي لحفنة من النخب". وهذا يعني أن فوز ترامب قد يقود لنمو هذا الاتجاه عالمياً، وبروز الكثير من الشعبوية، التي يرافقها الكثير من الفوضى.