قصص محمَّلة بالعبر كان يرويها جدي بحرارة وبرغبة في الحديث، لم نكن على دراية بما يجري حوله، ربما العديد منها نسيج من واقع معاش لكنها اتصفت بالجاذبية والتشويق حيث تطوي في ثناياها العبر والحكم ناهيك عن صلاحيتها لكل زمان ومكان. فما بال جدي قد اختار لي هذه الليلة قصة لم تعد غريبة عن زماننا الراهن ترصده بدقة، فهل عرفتم رواية جدي؟!
ورث الحكم منذ زمن طويل عن والده وبايعه أهل القرية كافة، هو حاكم لقرية كبيرة وممتدة تعج بالوافدين والزوّار حيث أصبحت مركزاً للقرى المجاورة، أما الحاكم فقويّ البنية حازم يجذب الناس بسرعة فائقة، لديه من صفات القيادة الكثير، وقد اعتاد أهل القرية على حكمه وسلطته النافذة الموروثة عن أجداده مع أنهم يعلمون حبه لذاته وإيثاره لنفسه في المناسبات العديدة والأفراح والأتراح المتنوعة في هذه القرية، وهو ذو عزيمة وإرادة وهمة لا يشكك بها، كل ذلك أضحى كافياً لإقناع أهل القرية بقيادته، هو حاكم بات لا منافس له في الأقوال وربما في الأفعال.
أما أهل القرية فكانوا يعملون منذ الصباح وحتى المساء في حقلهم الكبير بمهمات متنوعة تضمن العيش الكريم لجميع سكانها وقد يصدّرون إلى الخارج، هؤلاء الناس قد اختلفت طباعهم وصفاتهم وتفاوتت قدراتهم، لكنهم يحضرون جميعاً إلى الحقل وينصرفون معاً في ظل عملهم بأعمال متنوّعة، الزراعة والحصاد وقطف الثمر من جميع الأصناف والأنواع ثم يضعون الثمر في الغرف الخاصة المخصصة لهذا الغرض حتى يأتي الحاكم وحاشيته، كل أسبوع، ليتولوا مهمة التوزيع على الأهالي والبيع والشراء والخزين وفق قانون معمول به وهكذا تسير بهم الأيام.
وبمرور الزمان ظهرت علامات التذمر على كثير منهم يوما بعد يوم، كيف لا وفيهم فريقان الأول يمتلك رغبة فعلية في العمل وهم مخلصون جادّون مواظبون بنشاط وبإيثار وتغليب للمصلحة العامة للقرية على مصالحهم الخاصة. أما الفريق الثاني فيسجلون الحضور ويعملون كذلك بجد وانتظام ولكن ...لأهداف مختلفة تماما تصبُّ بل تصبّ مصالحهم الخاصة بعيداً عن الصالح العام، فكان الفرق كبيراً في الغايات والأهداف، فهؤلاء يضيع وقتهم لقضاء حاجاتهم الخاصة التي تعود عليهم بالنفع الذّاتي دون اكتراث بالعمل العام.
ومع مرور فترات من الزمان بدت تظهر عليهم علامات الإنجاز الخاص فحققوا ما طاب لهم وبنوا قصورا من ورق خارج حقل أهل القرية الكبير مع أنهم قابعون فيه. وفي مرحة قرر الحاكم أن يعتني بهم دون التفات إلى مضمون العمل الداخلي واكتفى بالمنجز الخارجي. فقرر تكريمهم ذات يوم بإقامة حفل كبير يجمع فيه الناس على مائدة طعام لتعزيز ما أنجزوا لذاتهم وحققوا انتصارات إن صح التعبير دون حساب لأولئك الذين يكدحون من أجل المصلحة العامة، وفعلا تم ذلك وسادت حالة من الفرح والمرح على ذلك العرس الكبير مع حالة من الاستغراب من تذمر الكادحين الذين باتوا يفكرون في الانضمام إليهم في محاولة منهم لإقناع ذاتهم أن المصلحة الخاصة باتت الأهم وأن لا حاجة للمصلحة العام!
لم تكن صدمة بل حالة استهجان، وبعد مرور الزمن كانت بالنسبة إليهم نقطة عابرة في زمان ضل فيه الصواب طريقه وسادت حالة من الفساد والنفاق حتى صغرت العظائم وغابت الحقائق وكبرت الصغائر واشتد القيل والقال. وباتت التساؤلات المشروعة تُطرح كثيرا، فهل المطلوب فعليا أن يبتعد أهل القرية عن خدمة قريتهم ويلتفتوا إلى مصالحهم الخاصة في الوقت المخصص للمصلحة العامة وتحفيزهم بطرائق ومكاسب آنية تبعدهم عن العمل الفعلي وحدث ولا حرج؟! أم ربما هي الخديعة من آخرين ممن ينصبون المكائد للحاكم ولهذه القرية حتى تضل الطريق؟
وبغض النظر يا جدي فقد فهمت روايتك، ففي كل مكان نجد تطبيقات حقيقية للقصة لكن ذلك ليس نهاية المطاف، فالحياة كفاح وعمل وأما الغلبة فستكون للصالح العام حيث إن المكاسب الآنية لا تعني شيئاً لأصحاب الهمم وللتاريخ الذي لا يرحم كل من يمرون فيه. فنم قرير العين يا جدّي.