في ظاهر الأمور، لم تؤد نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة إلى الخروج عن السياق الذي استقرت عليه منذ عقود، إذ لم ينجح أي من الحزبين في كسر آلية التبادل بينهما التي تستقر عند دورتين متتاليتين لكل منهما.
كان فوز هيلاري كلينتون سيحقق اختراقاً نادراً لهذه الآلية، فضلاً عن أن فوز امرأة لرئاسة البيت الأبيض للمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الأميركية كان أيضاً سيشكل سابقة لا أقل من سابقة انتخاب رئيس من أصول أفريقية هو الرئيس باراك أوباما.
النتائج التي أفضت إلى فوز ترامب، أحدثت خضة عميقة في كل الأوساط المهتمة على الصعيدين الأميركي والدولي، لكونها جاءت مخالفةً لكل التوقعات، ومخالفةً لاستطلاعات الرأي العام، ومخالفةً لسياق التنافس خلال الحملات الانتخابية التي كانت تعطي كلينتون دائماً الأسبقية، وأحياناً بفارق كبير.
على عكس كل ذلك فاز ترامب بفارق كبير على كلينتون يتجاوز الستين صوتاً في المجمع الانتخابي، وهو أمر لم يكن ترامب نفسه ليتوقعه في أحلى أحلامه، ما ينطوي على دلالات تتصل بتحولات عميقة في المجتمع الأميركي.
من السهل أن يستنتج البعض أن فوز ترامب ينطوي على تقييم لمستوى وعي وثقافة المجتمع الأميركي على أنه يتسم بسطحية الثقافة والمعرفة، ولكن الأمر مختلف حين يجري الحديث عن المجتمع الذي يبني أقوى دولة في العالم، بل يمكن اعتبار إدارته حكومة العالم.
رئيس شعبوي لا علاقة له بالسياسة والمعرفة الواسعة بدهاليزها والثقافة، جريء حتى الوقاحة في طرح آرائه العنصرية والمعادية للنساء والسود والمسلمين والعرب والمكسيكيين وعديد الأقليات القومية، ومع ذلك يحظى بقبول المجتمع الأميركي.
تخرج المسألة عن التقييم الذي يقول إن الأميركيين يعاقبون الإدارة الديمقراطية ويمنحون الفرصة للجمهوريين الذين كان آخر رؤسائهم جورج بوش الابن، الذي ورّط الأميركيين في كثير من الحروب الخاسرة وكبّد دافعي الضرائب أثماناً باهظة بلا معنى، وهبط بسمعة الولايات المتحدة إلى مستويات متدنية عند شعوب العالم.
مخجلة الشعارات التي طرحها ترامب خلال حملته الانتخابية، ومستفزة إلى أبعد الحدود، ما حرّك قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي الذين خرجوا إلى الشوارع للتعبير عن مخاوفهم واحتجاجهم، بل ورفضهم لنتائج الانتخابات.
لا يجوز التقليل من أبعاد ومعاني تسجيل أول إصابة في ساحات المواجهة بين الشرطة والمحتجين، وربما يؤشر على مرحلة من الاضطرابات الصعبة التي قد تتخذ طابعاً دموياً في مرحلة ما، وتصعيداً للجريمة والإرهاب في مجتمع يضج بالتنوع العرقي والطائفي.
معلوم أن الجمهوريين الآن يسيطرون على الحياة السياسية في الولايات المتحدة، فهم فضلاً عن إمساكهم بالبيت الأبيض وإدارته، يشكلون الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب، ما يمنحهم الفرصة لإقرار ما يشاؤون من سياسات وقوانين دون معارضة ذات أثر.
إذا كانت المعارضة على مستوى المؤسسات الحاكمة في أميركا لا تملك القدرة على التدخل والتأثير في السياسة العامة، فإن ذلك يعني أن المعارضة الشعبية أو غير الرسمية في الشوارع ربما تكون المعارضة الأساسية، ولأنها معارضة غير خاضعة للتنظيم فإنها تكون معارضة خطرة.
في الواقع فإن ما يتقدم خلال الحملات الانتخابية من شعارات ومواقف لا يلزم بالضرورة الرئيس وإدارته، بل إن ممارسة السياسة من موقع المسؤولية التي لم يجربها ترامب في بلادٍ محكومة بنظام المؤسسة قد يؤدي إلى تراجع الرئيس عن بعض ما تفوه به خلال الحملة الانتخابية، لكن ذلك لا يعني أن قناعاته وثقافته قد تغيرت.
من غير المرجح أن يبادر ترامب الرئيس إلى إطلاق سلسلة طويلة من الاعتذارات عما بدر عنه، ومن غير المرجح أيضاً أن يحول ما تفوه به إلى قوانين وإجراءات صريحة، لكن ممارسة السياسة الخارجية والداخلية لن تكون بعيدة في الجوهر عن القناعات التي عبّر عنها.
في السياسة الخارجية قدّم ترامب خطاباً سيئاً تجاه القضية الفلسطينية، فهو أكد أن إدارته ستنقل سفارتها إلى القدس، ما يعني اعترافاً بالمزاعم الإسرائيلية ونسفاً لقرارات الأمم المتحدة، وهو أكد مرةً أخرى مقولة نتنياهو بأن السلام لا يتحقق إلا بمفاوضات ثنائية مباشرة، وفي أول تصريح له بعد الفوز وجّه الدعوة للقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية.
قد ينفذ أو يتراجع عن تنفيذ بعض وعوده أسوةً بمن سبقوه، ولكن لا أحد يستطيع إنكار أن ترامب هو رهان إسرائيل التي جاهرت به كل الوقت عبر مناكفاتها للرئيس أوباما وإدارته وسياساته، إلى حد أن نتنياهو تدخل علنياً لصالح الجمهوريين في الانتخابات النصفية الماضية للكونجرس.
في كل الأحوال ليس لترامب أن يأتي بجديد مهم فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي، فالولايات المتحدة بكل إداراتها لم تحد عن اعتبار إسرائيل الحليف التاريخي الذي يستحق كل الدعم والحماية والتفوق.
حتى أوباما الذي أظهر نوايا حسنة إلى حد ما، فإنه تراجع في كل مرة لصالح السياسة والمواقف الإسرائيلية، أو تواطأ معها أو عجز عن تحقيق نواياه.
والسؤال هو هل ستواصل فرنسا مبادرتها وبقوة الدوافع التي أظهرتها، أم أنها ستتراجع خصوصاً بعدما ظهر من تحفظات وقلق أوروبي إزاء فوز ترامب الذي قال إنه سيجعل الأوروبيين يدفعون ثمن أمنهم الذي تحرسه الولايات المتحدة؟
مضمون رسالة ترامب للأوروبيين وصلت لدول الخليج أيضاً، فالحماية لها ثمن لا تتسامح به دولة شرطي العالم، ما ينبغي أن يطرح على الدول الخليجية الحاجة لمراجعة حسابات تاريخية في ظروف تاريخية صعبة.
ويعبر الإيرانيون عن قلقٍ من نوعٍ آخر، إذ يتخوفون من أن يبادر ترامب إلى فتح ملف الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي وذلك بتحريض من إسرائيل ولحساباتها، ما يطرح على الإيرانيين أيضاً ضرورة مراجعة حساباتهم، وإن حصل فإن ذلك سيؤدي إلى تغيرات دراماتيكية على مستوى العلاقات الإقليمية وأدوار القوى الفاعلة في المنطقة وعليها.
على أنني لا أحلم إذ أعتقد أن فوز ترامب يؤشر على مرحلة جديدة في العلاقات الدولية تشهد بداية تراجع أميركي حقيقي وظهور المزيد من السياسات والإجراءات العنصرية، والمزيد من الاضطرابات.
هذه هي حال إسرائيل التي تنزلق أكثر فأكثر نحو العدوانية والعنصرية، والحال التي قد تنزلق نحوها الولايات المتحدة التي تتجه الصين نحو التفوق عليها اقتصادياً وتتقدم روسيا نحو منافستها عسكرياً وسياسياً كقوى أطاحت عملياً بنظام القطبية الواحدة.