عطا الله شاهين " ناتاشا "

ناتاشا-550x367
حجم الخط

لا أذكرُ بأنني تأخّرت يوما في استيقاظِي في كلّ صباح، وعلى الشُّرفة الضّيّقة المفضّلة لي كنتُ أشربُ النسكافيه، وأدّخن سيجارتيْن قبل ذهابي إلى الجامعة، لكن على شُرفةٍ مقابلة لشُرفتي كانتْ الآنسة ناتاشا تقفُ بشعرِها الأشقر الطّويل المُنسدل على ظهرِها، دائما هي منْ كانتْ تُبادرني بالتّحية بابتسامةٍ رقيقة منها، وتشير بطيبةِ قلبها ونقاءه. كنّا في بعضِ الأحيان نتبادلُ أطراف الحديث، عادة ما كنا نتكلّم عن الدراسة، أو عن عملِها في حديقةِ الحيوانات، وكثيرا كانتْ تحدّثني عنْ طيورِ الكركي التي كانتْ تعشش في المُستنقعات، كانْ حديثاً لطيفاً ينعشُ الروح، ويجعلُ الجوَّ فيه حيوية ونشاط إلى ما لا نهاية، لكنّ ناتاشا اختفتْ فجأة ولمْ يظهر لها أثر، واختفتْ طيور الكركي، التي تذكّرني بها في المُستنقعات المُقابلة لبيتي، ضاقَ بي الجوّ، وأخذَ منّي الكرْب ما أخذ، ومنذ تلك اللحظة، قررتُ أن أظلُّ في سُباتي، ربما تؤوبُ ناتاشا ومعها طيور الكركي، ولو في المنام.

 

لقد اختفتْ ناتاشا في لحظة من دون أية إشارة، وكأن الأرض ازدرتها، لا أعرفُ، لِمَ يجعلنا بعض الأشخاص نرتبطُ بالمكانِ إلى حُدودِ الرابطة العاطفية ويُمسي المكان جزءً منا، ونحنُ جزء منه. علاقتي بشرفة ناتاشا تجاوزتْ كلّ ما قرأتُ من القصص الجاهلية أو في القصص الحديثة، فنحيبي عليها باتَ سرمدياً، ما دامتْ الشُّرفة ما تزالُ ماثلةً أمامي، قائمةً كوقوفِ ناتاشا في وجدانِي الملطّخ بالجوى، وباتتْ حياتي كلها مشيّدة على رجاء إيابها، تماما مثل بينلوبي، التي كانتْ تنتظرُ إيابَ زوجها المحارب، لكنّ فرقاً بيننا، فزوجها أعلمها أنّه ذاهبٌ لخوضِ القتال، أما مجازفة ناتاشا فغامضة، ليتها نبهتني قبل الذّهاب.

 

ذات مساءٍ، وبعد مُرورِ أشهرٍ على تواريها، كنتُ قدْ استيقظتُ لأشمّ هواءً سيبيرياً بارداً من على شُرفتي المحببة، لكنّني رأيتُ ملابساً معلّقة على شُرفةِ ناتاشا، ارتجّ قلبي رجّاً مجنوناً. حسبتها آبتْ بغتةً كما اختفتْ، لكنّ سرعان ما تبدّد حسباني واختفى، بعدما قلتُ في ذاتي، ناتاشا لا ترتدي مثل هذه الثّياب، لمْ أشاهدها ولا مرّة بتنورةٍ طويلةٍ غامقة اللون، ولا بنطال كوردروي.

 

رجعتُ إلى الأريكةِ الممزقة، قعدتُ واستلقيتُ، أغلقتُ مقلتاي لبرهةٍ، وثارَ الذّهن بصورٍ من الذكرى، صورة ناتاشا، حركتُها، صوتها النّاعم، وجدائلُ شعرها الأشقر المُتناثرة مع هبّاتِ الصّباح ربما في الذكرى ما يأْسِي الفؤاد من لهبِ الحُبِّ.هكذا قلتُ وكنتُ أقول في ذاتي باستمرار.

 

بعد ذلك، أبرمتُ وعدا مع ناتاشا بأنني في الوهم لن أُهوى بغيرها، سأترقّبُ إيابها حتى النهاية، وامتنعتْ عن الجلوسِ مع الأصدقاء لأعوام كثيرة، ظللتُ خلالها منعزلا في غرفتي، أُعبّئ النفس بقراءة الصحف والروايات الرومانسية، فبدأتْ لديّ نعمة الكتابة، وكانت قصة ناتاشا فاتحة كتاباتي الأولى. وهي القصة التي بعثتها للنّشرِ في أغلب الجرائد، وبتُّ اليوم كاتبا مقبولا. لكن رغم كل ما أنجزتُ من نجاحٍ، فكلْم ناتاشا لم ولن يتعافى، ما دامتْ محتشدة في وهمِي، والرّجاء في إيابها ما يزال ماثلاً في وجودي وعقلي.