لم يسبق أن ووجه رئيس أميركي منتخب بثورة احتجاجات شعبية، كما حدث مع الرئيس الخامس والأربعين الذي لم يتسلم صلاحياته الدستورية بعد، دونالد ترامب، حيث اندلعت التظاهرات الرافضة لنتيجة الانتخابات، وبمعنى أدق الرافضة لأن يكون الرجل المذكور بشخصه المحدد رئيسا للولايات المتحدة، نظرا لما عبر عنه بنفسه خلال حملته الانتخابية من كره للمهاجرين، الذين يشكلون نسبة مهمة من مواطني الدولة الفدرالية، والتي هي بالأصل قامت كدولة على أكتاف المهاجرين من كل أنحاء الكرة الأرضية.
وربما أيضا لأن مئات من الشباب الأميركي اكتشفوا بأن لعبة الانتخابات ما هي إلا لعبة، لا تختلف كثيرا عن لعبة "الأتاري" ولا تخرج عن ثقافة المراهنات، حيث يقوم من يتحكم بقواعد ونتائج اللعبة في كثير من الأحيان، بإحداث نتائج غير متوقعة لتحقيق أرباح كبيرة، ويبدو أيضا بأن ما أشارت له المرشحة التي كانت وفق استطلاعات الرأي الأوفر حظا، هيلاري كلينتون، من أن جيم كومي مدير مكتب التحقيقات الفدرالي، هو من تسبب بخسارتها الانتخابات حين قام في الأيام الأخيرة ما قبل التصويت بإعلان العثور على رسائل الكترونية جديدة، ما يعني احد أمرين، أولهما أن المؤسسة الأمنية تدخلت بشكل مباشر للتأثير على نتائج الانتخابات، أو أن إعلان مدير مكتب التحقيقات الفدرالي التابع لوزارة العدل، قد تطوع للإعلان بشكل شخصي مدفوعا بالرغبة في الحصول على مكافأة مالية من الملياردير الأميركي، هذا حتى لا نقول بأنه ربما كان قد تمت رشوته فعلا !
المهم بالأمر، أن انتخاب ترامب يعني انتعاشا للمؤسسة العسكرية الأميركية، كذلك ربما مزيدا من القوة للمؤسسة الأمنية، وتراجعا لدور ونفوذ المؤسسات الديمقراطية في البلاد التي تقود العالم سياسيا منذ نحو عقدين ونصف، أي منذ انتهاء الحرب الباردة.
صحيح أن الدولة الأميركية هي دولة مؤسسات، وان الرئيس فيها ما هو إلا موظف عام يتقاضى 400 ألف دولار سنويا، ربما يقدم ترامب بالتحديد على مبادرة التبرع بالمرتب لعدم حاجته له، لصالح افتتاح حلبات مصارعة أو ما شابه، لكن الصحيح أيضا أن اختيار طاقم الرئاسة من بين احد الحزبين الكبيرين، يحدد الاتجاه العام للسياسة الأميركية خلال أربع سنوات أو حتى ثماني سنوات قادمة، وإلا لما انحصرت الانتخابات منذ تأسيس الدولة وحتى الآن بين الحزبين فقط، رغم ترشح ممثلي أحزاب ليبرالية ويسارية ومناصري البيئة دائما.
آخر ما يفكر القيام به الرئيس الديمقراطي الحالي، باراك أوباما هو أن يقوم بجولة على الحلفاء الأوروبيين لدرء احتمالات الضرر المتوقعة في علاقة بلاده مع أهم حلفائها على الصعيد الكوني، فيما كل الدنيا تعرف بان انتخاب ترامب يعني تغييرا نوعيا في السياسة الأميركية خاصة الخارجية منها. فمن شبه المؤكد أن يقوم الرجل بإغلاق ملف "دمقرطة الشرق الأوسط" الذي أقدم على فتحه الديمقراطيون خلال عهد اوباما، وانه لن يكون معنيا بإسقاط الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، فقد اكتفت أميركا بإسقاط صدام حسين ومعمر القذافي المعاديين لها، وانه ينوي _ حسب ما أعلن هو شخصيا _ القيام بالسطو على أموال دول الخليج العربي، حين قال بان الحرب في سورية والعراق تكلف 3 تريليون دولار، يجب أن تدفعها دول الخليج والمقصود دون مواربة _ قطر / السعودية / الإمارات، أي الدول التي "تورطت" في تنفيذ سياسية الديمقراطيين في المنطقة بما سمي بالربيع العربي.
وعلى الأغلب لن يواصل سياسة دعم جماعات المعارضة السورية المسلحة، وانه لن يهتم بإسقاط الرئيس بشار الأسد، بل داعش والجماعات الإسلامية المتشددة التي يدعم التحالف الغربي / العربي بعضها علنا، وبعضها سرا.
أما بخصوص الملف الفلسطيني / الإسرائيلي، فان نتائج الانتخابات الأميركية ستكون وخيمة عليه، فهي تغلق تماما ونهائيا ملف حل الدولتين، والرجل أعلن بعد انتخابه بان المستوطنات لا تشكل عقبة في طريق الحل، وان المفاوضات المباشرة _ كما تقول إسرائيل _ هي الطريق الوحيد للحل، كما انه ربما يقوم بما لم يقم به أي مرشح جمهوري من قبل، رغم إعلان أكثر من مرشح خلال الحملة الانتخابية، دون أن ينفذ بعد فوزه، بنقل السفارة الأميركية للقدس المحتلة.
المهم انه بات من المرجح أن ينعقد المؤتمر السابع لحركة فتح _ صاحبة المشروع الوطني الفلسطيني وقائده _ لأسباب عديدة، ليس أهمها كون انعقاد المؤتمر يشكل استحقاقا داخليا، لكن وقبل اقل من أسبوعين على عقد المؤتمر، فان انتخاب ترامب بحد ذاته يشكل تحديا، ربما لا نبالغ لو قلنا بأنه يفرض على الكل الفلسطيني أن يراجع نفسه وبرامجه وأدواته لمواجهة هذا التحدي الخطير جدا، لذا فان مؤتمر فتح مطالب بتحديد الإستراتيجية الوطنية خلال السنوات الأربع القادمة، على إيقاع ترامب !
المشكلة أن اهتمام الفتحاويين من أعضاء المؤتمر، منصب كما هي العادة على البند الانتخابي، حيث يبدو أن ألفا من أصل 1300 أو 1400 ينوون الترشح لعضوية اللجنة المركزية !، لذا نقول بكل أسف، بأنه ما لم تسقط هبة من السماء، فان الحال الفلسطيني سينتقل من سيئ لأسوأ، وان مؤتمر فتح هذا قد يكون مؤتمرها الأخير، وان صفحة المشروع الوطني بكل مكوناته الفصائلية _ الوطنية والإسلامية _ ربما تكون قد أوشكت على الانطواء، وليس في ذلك آخر الدنيا، فالأهم هو أن تكون هناك صفحة تالية تلوح في الأفق، قد تكون إرهاصاتها، الكفاح القانوني في الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، ومن ثم النضال ضد التمييز العنصري، ضمن المطالبة بحل الدولة الواحدة، لكن ثنائية القومية، أو كونفدرالية النظام السياسي، والتي لا بد من أن يكون حتى اسمها اسما آخر، ليس إسرائيل وعلمها، مختلفا لا يتضمن الإشارة لما بين النيل والفرات ونشيدها مختلف وعملتها وكل مكوناتها مختلفة عن مكونات دولة إسرائيل الاحتلالية / العنصرية !