فى تجربة مثيرة للدهشة قادها المفكر نواف القديمى على صفحات صحيفة من المفترض أنها تمثل واحداً من أكثر التيارات الإسلامية -أنا أفضل تسميتها المتأسلمة- تشدداً فى المغرب هى صحيفة «المحايد» التهبت معارك فكرية رصينة أفسحت لها «المحايد» صدرها رغم أن بعضها تضمن انتقادات لاذعة للفكر المتأسلم واتهامات بالتحجر والغفلة وغيرها، وتمددت الحوارات عبر الإنترنت ثم على صفحات «الشرق الأوسط» (ذات الاتجاه السعودى) وصحيفة «الوطن» السعودية. ونواف القديمى يفتح الموضوع تلو الموضوع ليلهب النقاش فيكون كمن يلقى باستمرار حطباً وخشباً إلى المدفأة التى بعثت فى ساحة الفكر حماساً ملتهباً.. وتوهج ثم انطفأ.
ويقول نواف القديمى: «يبدو جلياً أن الحوارات التى نشرت فى (المحايد) كانت الأكثر سخونة وكان ذلك مقصوداً، فجرعة الإثارة كانت عملاً مقصوداً بهدف استثارة الشباب «الإسلامى».. مع ملاحظة أن حضورها فى السعودية قد بدأ يتكثف.. ومع مزيد من الأسف كفت أمواج الساقية عن الدوران وجف نسيم الحوارات الملهمة.. ولا نملك سوى الأسف والأمل فى استعادة فتح نوافذ الحوار الفكرى العاصف المستنير. وقبل أن أدخل إلى عمق الحوارات أستأذن فى أن أسجل رفضى لكلمة (الإسلامى) لوصف مفردات هذا التيار المحافظ لأنها ببساطة تعنى أننا كمعارضين لهذا التيار لسنا (إسلاميين) وبهذا يبدأ الحوار من منطلق خاطئ بل واستبدادى».
وفى جريدة الشرق الأوسط [22 يونيو 2003] نشرت ورقة «أسلمة المعرفة.. هل تقودنا نحو إسلام شمولى؟» ونقرأ: برز فى عقد الثمانينات من القرن الماضى تيار «متأسلم» يدعو إلى أسلمة المعرفة الإنسانية وتهذيب الإنتاج البشرى فى العلوم الحديثة كى يتوافق مع الرؤية الإسلامية للحياة والكون والإنسان. ويرى البعض أن هذا التيار يثير الشك فى الإنجاز البشرى الحديث فالعلوم منحازة ولا مشتركات إنسانية حتى غدونا نسمع دعوات لأسلمة الطعام وأسلمة المدن وأسلمة اللباس فضلاً عن التنقيب عن نزعات الانحياز الغربى فى معادلات الرياضيات والمركبات الكيميائية بما يؤدى إلى تصنيع إسلام شمولى، ولا يدرك أصحاب هذه النظرة الشمولية أن كثيراً من العلوم هى بطبيعتها محايدة وملك للبشرية وتراكم حضارى.
ويحاول د. عبدالوهاب المسيرى أن يفرض رؤيته معلقاً: وأنا كمفكر ذى مرجعية إسلامية أسعى للتوصل إلى علوم إسلامية لا تنقل تحيزات الرؤية الغربية المادية المعادية للإنسان، وإنما تنقل رؤيتنا نحن بمرجعيتنا العربية الإسلامية وهو مشروع توليد «معرفة إسلامية» أو ما يسمى «أسلمة المعرفة» وهو ليس شيئاً فريداً أو شاذاً بل هو جزء من تيار عالمى أدرك أن الأطروحات المادية الضيقة قد أدخلتنا فى طريق مسدود.. حيث الجميع فى حرب مع الجميع، فالإنسان ما هو إلا ذئب لأخيه الإنسان [صـ19]. ولكن تأتى أفكار أخرى فعبدالعزيز الخضر يقول «إن مفهوم مصطلح أسلمة المعرفة يترتب عليه إعاقة معرفية فى المستقبل، وإجهاض للعقلية العلمية للمسلم فى رؤية العالم، لأن العلم وآلياته يغلب عليه طابع الحياء». ويتوقف «الخضر» أمام ظاهرة الاستدلال المتكلف بالآيات والأحاديث وتحميل النصوص أكثر مما تحتمل، وتحتوى قدراً عالياً من التعسف العلمى بحجة الأسلمة، بما يؤدى إلى سلبيتين أولاهما الجمود العلمى لأنه يتصور أنه لا بد أن ينطلق من نص ليستدل على صحتها. والثانية هى أن يلجأ الباحث إلى إقحام النصوص فى غير موضعها، بل والتعدى عليها حتى تصبح فكرته إسلامية أو مقبولة لدى المجتمع المسلم، وهذه السلبيات تؤدى إلى إعاقة البحث العلمى والإبداع فيه. ثم يتساءل.. هل من مصلحة الإسلام أن يغرق المجتمع فى أسلمة كل شىء، ويصدر أحكاماً شرعية تترصد كل فكرة أو حركة أو سلوك أو عادات اجتماعية.. أم أن المصلحة الكلية توجب ألا يكون هناك اندفاع فى هذا الجانب ليدع هامشاً كبيراً يتحرك فيه المسلم على سجيته فى مجتمعات متنوعة فى فضاء هذا العالم؟
ثم يتقدم د. على حرب واصفاً الدعوة لأسلمة المعرفة بأنها ردة فعل عقائدية على التفوق المعرفى للغرب وتغليب لعقلية الدعوة على لغة الفهم والمعرفة. ذلك أن «أسلمة المعرفة» تعنى أن هناك منظومة معرفية تخص المسلمين وحدهم دون سواهم.. وتعنى نشوء مجتمع شمولى يريد للناس أن يكونوا نسخاً مكررة من بعضهم البعض فى الفكر والمأكل والمشرب والملبس والملهى وفى كل دقائق الحياة، لكى يكونوا على صورة السلف، وفى ذلك مصادرة للعقل وإفقار للمعنى وسجن للحياة، وهذا يقوض مشروعات التحرر من الهيمنة، ذلك أن زرع الحواجز والسدود بين العقول والثقافات أى أن نترك للغرب الذى يتعامل مع خصوصيته ومعارفه بصورة عالمية فى مجال الخلق والابتكار أن يفكر له ولنا فيما نهتم نحن وفقط بما تعتبره أصولنا الثابتة ومعارفنا الخاصة بنا.. وهذا فخ ننصبه لأنفسنا ويدفعنا إليه الغير لنقع فيه فنزداد تبعية وتخلفاً [صـ27]. ولعل أكثر ما يحزننا فى ذلك كله هو توقف هذا الحوار الذى أوشك أن يثمر سعة أفق وقدرة على تقبل الآخر ومن ثم الانفتاح على إبداعاته ومعارفه.
ونواصل.
عن الوطن المصرية