إسرائيل: أزمة بين اليمين واليمين!

حسن البطل
حجم الخط

يحكون في سورية هذه الطرفة عن "الجدبة الحمصية": بين مدينتي حمص وحماة، وقف واحد مسطول على حافة نهر العاصي، وبيده سطل راح يغرف به من ماء النهر ويصبُّ ما يغرف في الجهة المعاكسة للنهر؟
نهر العاصي؟ لأنه خلاف أنهار سورية يتجه من الجنوب للشمال؛ وخلاف مجرى النهر وسطل المسطول، فإن مغرافات نواعير حماة الشهيرة تدور مع مجرى النهر.
"لكل نهر مجرى وحياة" كما قال شاعر فلسطيني؛ ولكل حزب مجراه من النبع إلى المصبّ، وفروعه وروافده ومساقطه وشلالاته. إمّا يصبّ في البحر غالباً، أو يتلاشى في بحيرة أو مستنقع، كما هو حال نهر بردى، الذي صار يجفّ ويموت قبل أن يدرك بحيرة أو مستنقع "الهيجانة".
أحزاب الدول ليست كالأنهار، سوى أنها تجفّ وتموت، مثلما ماتت الأحزاب الشيوعية في العالم، وتلاشى حزب البعث في الوطن وسورية.. ومات "الاتحاد القومي" في الجمهورية العربية المتحدة.
في العادة، تتنافس على الحكم أحزاب اليسار واليمين، ثم تتنافس أجنحة الحزب الحاكم فيما بينها، ما يؤدي في النتيجة إلى خسارتها الحكم.
منذ العام 1977، والانقلاب السياسي ـ الأيديولوجي، أخذت تجفّ الدماء في عروق أحزاب اليسار في إسرائيل، و"كتلة التكتل" المسماة "هاليكود" شكلت الحكومة الأكثر يمينية في حياة الدولة، وعمادها لأجنحة كانت انشقت زعاماتها عن "الليكود"، ثم عادت للائتلاف معه، وهي أحزاب "إسرائيل بيتنا" و"البيت اليهودي" و"كولانو ـ كلنا" وجميع قادتها كانوا في قيادة الليكود أو في إدارته.
في هذه الأثناء، لم يعد هذا ليكود ـ مناحيم بيغن، بل صار ليكود نتنياهو، الذي نجح في إعادة فروعه لتشكل مصبّاً في مجراه.
أحزاب الائتلاف الليكودي لا تختلف على الاستيطان وتهويد الأراضي الفلسطينية، أو معارضة إقامة دولة فلسطينية، لكن على الوسائل والإيقاع، وسرعة وسبل تهديد دولة إسرائيل.
أي كيف تتحول البؤرة الاستيطانية إلى مستوطنة، والمستوطنات إلى كتلة، وكيف تجعل القدس والمستوطنات الفلسطينيين محصورين في كانتونات، أي يحيط "البحر" اليهودي بـ"الجزر" الفلسطينية، بعدما كان البحر العربي يحيط بدولة إسرائيل.
عندما كان شارون في الحكم، قائداً لـ"الليكود" شق هذا "التكتل" وشكل نهر "كاديما" لأن "ما يُرى من فوق لا يُرى من تحت"، ومقابل اعتراف مُبطَّن من الرئيس بوش بالكتل الاستيطانية، وافق شارون على إزالة "البؤر غير الشرعية"، التي أقيمت على أراضي فلسطينية خاصة، تشكل ثلث الأراضي الفلسطينية، كما تشكل المنطقة (ج) أو (سي) 60% منها.
باستثناء تحريك مكان بؤرتي "ميغرون" و"أولبانه" من "بؤرة" غير شرعية، حسب القانون الإسرائيلي، والدولي طبعاً، لم يتم شطب أي بؤرة، وألحقت بمستوطنة أكبر، إلى أن وصلنا إلى "بؤرة" "عمونا" التي أقيمت على أرض فلسطينية خاصة العام 1997، قرب سلواد.
منذ العام 2008 ربح ملاّك فلسطينيون دعوى قضائية أمام محكمتهم العليا، التي قررت في العام 2012 إزالة البؤرة، "نجحت" الحكومة في تأجيلها حتى 25 كانون الأول من هذا العام.. وتطالب بتأجيل آخر يتلوه تأجيل!
كما نقل المسطول الحمصي سطل المياه من مجرى النهر، فكذا قررت حكومتهم نقل البؤرة من أرض خاصة إلى أرض خاصة، ولكن أصحابها غادروا بعد حرب حزيران 1967.
يرى العالم أن الاستيطان برمّته غير شرعي؛ وترى إسرائيل أن بعضه شرعي في قانونها، والآخر غير شرعي، لكن أحزاباً في الحكومة، مثل "البيت اليهودي" ترى أن جميع البؤر والمستوطنات والكتل شرعية.
لأن وزيرة العدل، أييليت شكيد، من حزب بينيت،  عقدت اجتماعاً للجنة الوزارية لشؤون التشريع، وحصلت منه على قرار تبييض ليس بؤرة "عمونا" فقط، ولكن سائر البؤر غير الشرعية، وفق مفهوم "تسوية" أوضاعها، وإطلاق التهديد من كل عقال.
اقترح نتنياهو تأجيل إخلاء البؤرة سبعة شهور أخرى، ورفضت محكمتهم هذا، وهي التي وافقت على إخلاء قرية العراقيب البدوية في النقب، لأنها جزء من إسرائيل، أما "عمونا" فهي في "ارض متنازع عليها"!
بسبب التنافس على الصوت الانتخابي، ولأن نتنياهو سرق أصواتاً من الأحزاب الأكثر يمينية في الانتخابات الأخيرة، اعترض زعيم "إسرائيل بيتنا" على القرار، لأن "اليمين هو الذي يُسقط اليمين" كما أسقط "هتحياه" حكومة شامير فكانت أوسلو، التي يعارضها نتنياهو وبينيت وليبرمان بشكل سافر أو أقل سفوراً.
ما يبدو أزمة بين اليمين واليمين في حكومة نتنياهو الأكثر يمينية قد لا يكون أكثر من عاصفة في فنجان، لأن رئيس الحكومة قادر على "استبدال" "البيت اليهودي" بـ"الاتحاد الصهيوني" بقيادة هيرتسوغ، أو الدعوة لانتخابات مبكرة، حيث لا يوجد متنافسون على تشكيل ائتلاف جديد يبتزون نتنياهو.
مع ذلك، فإن أزمة شخصية وسياسية أكثر منها أيديولوجية بين رؤساء أحزاب الائتلاف الليكودي يمكن أن تكون مؤشراً على استفحال خلاف هذه الأحزاب حول تشكيل المحكمة العليا لجعلها "ستامبا" لقرارات كتبت تسيطر عليه أحزاب اليمين، يضاف إلى خلاف بين قادة الجيش وجنود مؤيدين للمستوطنين تدعمهم بعض أحزاب الحكومة، وحتى رئيس الحكومة إلى حدّ ما، كما في قضية الإجهاز على الشاب الجريح "الشريف" برصاص الجندي "عزريا". يبدو اليمين سرطان اليمين وسرطان إسرائيل، التي كانت سرطاناً في العالم العربي يتسارع الاستيطان، بؤره ومستوطناته وكتله، مع تسارع اتجاه معظم أحزاب إسرائيل إلى تغليب يهودية الدولة على ديمقراطيتها منذ العام 2009، واليمين الجديد اليهودي أخذ يسيطر على مفاتيح الدولة في الجيش والأحزاب والكنيست، وقريباً في المحكمة العليا.
في غياب تهديد جدّي لإسرائيل، إقليمياً ودولياً، يبرز الخلاف حول جمع تهويد الدولة مع مشروع الاستيطان، وتالياً خلاف إسرائيل مع العالم حول حل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، سواء أكانت إدارة ترامب أكثر محاباة لإسرائيل أم لا، ومشكلة إسرائيل مع فلسطين هي "دوده من عوده"، لأن القوميين المتطرفين هم الأخطر على دعاواهم القومية: عالمياً، عربياً.. وإسرائيلياً!