أَحَشَفَاً وَسُـوءُ كِيْلة؟!

عبد الغني سلامة
حجم الخط

نعلم أن السلطة الوطنية أتت نتيجة اتفاق دولي، في ظرف سياسي دقيق، وفي أصعب مرحلة مرت بها منظمة التحرير الفلسطينية، وأنها أتت تجسيدا لمعادلة سياسية ظالمة، وانعكاسا لخلل فادح في موازين القوى؛ وبالتالي فإن هذه السلطة ستكون مقيدة بجملة من الاشتراطات والقوانين والاتفاقيات ترسم دورها وحدود صلاحياتها بدقة.. رغم أنها تسعى للتحرر منها بأشكال نضالية عديدة، من ضمنها الكفاح الدبلوماسي على الساحة الدولية، ومن خلال المقاومة الشعبية.. إلا أنها تظل مكبلة بالتفوق والهيمنة الإسرائيلية من جهة، وبالتوافق الدولي من جهة ثانية، وبتنفسها من خلال رئة مساعدات الدول المانحة..

وما زاد من تعقيد الموقف، ومن إضعاف السلطة؛ حالة التواطؤ العربي والدولي مع إسرائيل، وصمت المجتمع الدولي إزاء جرائمها المتكررة بحق الشعب الفلسطيني، سيما في هذه المرحلة، التي تشهد صراعات وحروب إقليمية، وتراجع في مكانة وأهمية القضية الفلسطينية من الأجندات الدولية.. وطبعا أضفنا نحن إلى هذا الضعف حالة الانقسام والصراع الداخلي، وتراجع دور الفصائل..

وبناءً عليه؛ لا نتوقع في ظل هذه الظروف المعقدة حدوث أي تغيير جوهري في المعادلة القائمة، على الأقل في المدى المنظور، وبالتالي فإن أفضل ما يمكن للفلسطينيين أن يقدموه الآن هو الصمود، والبقاء فوق أرضهم، والخروج من المرحلة بأقل قدر ممكن من الخسائر.. سيما وأن الصراع، مع قدوم السلطة، تحول من الخارج إلى الداخل، أي أن الجبهة المركزية للصراع انتقلت من المنفى إلى الوطن، وأصبحت أرض البلاد هي مركز الثقل والعمل السياسي والشعبي والانتفاضي والديمغرافي الفلسطيني، وليست أرض الشتات. أو بتعبير آخر صاغه "حسن البطل": "صراع بين ميزان القوى في الجانب الإسرائيلي، وميزان الإرادات في الجانب الفلسطيني، الذي يواجه ميزان القوى بمزيج من الخصائص الفلسطينية الفريدة، مثل: قدرة التحمل، والصبر، والعناد.. وأيضاً بروح التضحية والفداء، الابتكار والإقدام". والذي يحتاج من أجل تعزيزه إنهاء الانقسام.

وطالما أن الصراع غير قابل للحسم العسكري، باعتراف جنرالات إسرائيليين، يصبح الرهان على الحسم السياسي، خاصة وأن السلطة نجحت إلى حد ما في مواءمة الحل الدولي المطروح مع الحل الفلسطيني، الأمر الذي يحتاج فترة من الزمن، وقدرة على الصمود.
قد نكون غير واقعيين إذا طالبنا السلطة بما هو أكبر من قدرتها.. أي فتح جبهة عسكرية، أو التنصل من الاتفاقيات التي وقعت عليها، خاصة بروتوكول باريس، أو وقف التنسيق الأمني كليا.. (رغم أنها أوراق مهمة ينبغي إمساكها بقوة واستعمالها بحكمة) فكل خطوة من هذه الخطوات ستدفع السلطة، ومعها الشعب أثمانا باهظة مقابلها، قد لا يكون بوسعهما تحملها.. خاصة بعد الخسائر الفادحة التي تكبدها الفلسطينيون في انتفاضة الأقصى..

كثيرون سيفهمون ما تقدم من طرح على أنه مجرد تبرير للسلطة في إخفاقها وفشلها.. لا بأس بذلك، الموضوع ليس تلاعبا بالألفاظ، ولا مهارات بالصياغة، ولا مزاودات لا تكلف صاحبها شيئا، بل تكسبه شعبوية (زائفة).. شخصيا أتمنى أن تأتي قيادة جديدة، وتتمكن من قلب الطاولة رأسا على عقب.. لكن القضية ليست بالأماني.

ما أود قوله هنا، أن الشعب الفلسطيني (خاصة في الداخل) قد يتفهم الظرف الدقيق التي تعيشه السلطة، وقد يتفهم أيضا سعي القيادة لتجنب أي تصعيد عسكري مع الإسرائيليين، حتى لا تعطيهم المبرر لإفتتاح جولة جديدة من القتل والتهديم دون مقابل سياسي.. وربما أن الجماهير أيضا غير معنية بمتابعة الجهود الدبلوماسية وجولات المفاوضات الفاشلة والتكتيكات السياسية التي لا ترى نتائجها... لكنها لا تغفر ولا تتساهل مع أي فشل في الأداء الداخلي.. أي في الأمور المتعلقة بأداء السلطة تجاه الشعب..

بمعنى آخر، قبلت الجماهير الفلسطينية بالسلطة، على أمل أن تكون نواةً للدولة، وأن تتحول فعليا لدولة مستقلة، لكنها لا تقبل بتحول السلطة إلى حالة دائمة أبدية، بحيث أن هذه الحالة تعيق أي مسعى لتغيير الواقع.. وإذا تغاضت عن أدائها السياسي (لأسباب موضوعية) فإنها لا تقبل أن تتحول هذه السلطة إلى نظام بوليسي.. لا يختلف عن الأنظمة القمعية بشيء.. ولا تقبل بحكم يُقصي أي صوت معارض،.. لا تقبل بناطق رسمي باسم الأجهزة الأمنية لا يخرج على الناس إلا بوجه متجهم عابس... لا تقبل قمع الاحتجاجات الشعبية .. لا تقبل بأجهزة أمنية تضرب وتعذب .. ولا تقبل أصلا بوجود اعتقال سياسي، أو تكميم للأفواه.

لا تقبل باستمرار الانقسام كل هذه المدة.. ولا بتأجيل الانتخابات مرة بعد مرة، ولا باستمرار هذا الوضع المتكلس والمترهل.. لا تقبل بأداء إعلامي هزيل، ولا بتلفزيون وطني يذكرنا بتلفزيونات الأنظمة الشمولية.. ولا تقبل بوزارات لا تعمل بشفافية .. لا تقبل بحكومة لا يكون في مقدمة أولوياتها حل مشاكل الشباب والخريجين والبطالة.. ولا تمتلك مخططات إستراتيجية لمواجهة المستقبل.

هذه قضايا داخلية لا يتحكم فيها الاحتلال، ولا يمكن أن تعترض عليها الدول المانحة.. قضايا تحتاج قرارات حكيمة وحازمة، ومسؤولين صادقين، وشفافية، وأداء سليم.. فقط لا غير..
قديما قيل: أحشفاً، وسوء كيل!؟ ويُضرب هذا المَثَل لمن يَجمع بين خصْلتَيْن ذميمتَيْن. و"الحَشَف": هو التَّمر الرَّدِيء.