عطا الله شاهين : شكْلُ السّحابة المارّة

شكْلُ السّحابة المارّة
حجم الخط

دأتْ الباخرةُ بالتحرّك، سحنات المهاجرين الواقفين على المرفأ بدا عليها الوهن، الضّجيجُ تحوّلَ إلى صخبٍ ملتبس، الباخرةُ رحلتْ وصفيرها علا ثاقبا حائط الأحاسيس، الصّور الراّئعة انفعلتْ في مرآةِ عقله المحتوية لبقايا ذكرياتٍ حزينة. مالَ رأسُه من قساوةِ الصّور، فلزبَ ببلورِ نافذةِ المقطورة، تكوينٌ من السّحبِ كانَ يتجانسُ مكوّنا صورة لها.. استعطى النّسيم ألا يلعبُ بتلك السحابة.. كان يخشى كما لو أنه استعدّ لدخولِ زحمة قتال غير متساوٍ، قتالٌ هالكٌ سلفا، لكنّ في باطنِه علا صياحٌ، صفّر وأطلقَ الطّقطقات، وشجّعَ التّكوين السّحبي على الاستمرارِ أكثر في وجهِ هبّاتِ النّسيم، رغبَ لو تمكّن منْ لملمةِ تلك السّحابة في شنطةِ سفرِه، لربّما سيظفرُ بشيءٍ منها.. بدأتْ بِنيةُ مُحيّاها في التّحلل وكانَ يرنو ذلك حزيناً، السّحابة بدأت تتكسّر والالتصاق من جديدٍ بمشاهدٍ أخرى غامضة.. ثغرُها وحده تصدّى رغبةَ التّكوين الجديد، بدا مُتمرّدا على الضّمّ وتكرارِ التّكوّن العادي، وكانتْ علامات وجهها المُشعّة، وهي تغوصُ في طينِ العجاجِ وتتلاشى كدلفينٍ ممتلئ بالحياة، خلّصتها يد قناصٍ مُولع، وكانَ هو في وسطِ هذه المأساة يتسمّرُ متشتتاً مُحيّا صديقته، ويبيتُ عملاقاً دوستويوفسكياً، ومرّة أخرى تحتشدُ السّحبُ مكونةً بيتاً مدمرا، الهواءُ كانَ مدهشاً بتكوينِه وهو يزاولُ نقدا تكوينياً مثل بقية صفوة القوم المرتدية لقبعاتٍ وبالطوهاتٍ غير متناسقة الألوان، لكنه ليس منحازا، كيف يكون وناتاشا باتتْ تشويه لبيتٍ مدمّرٍ.

 

الغلافُ الجوّي موبوء بالبهاق، كتلُ عجاجية تنتشرُ هنا وهناك كسربِ أسماكٍ هاربة، والباخرةُ كانتْ تأكلُ موجاتِ البحر بشراهةٍ، سحناتُ الرّكابِ الرّاحلين بدتْ باهتة، في الأفقِ خلف البحرِ سديمٌ صيفي ارتفعَ في منظر رائع، تذكّر كل شيء جمعهما سويةً، نسمةُ طيبها الغريب، خجلُها البلدي، هياجُها المُمتع، هدوؤها القفْري، حتى روعة القهوة لا زالتْ تجتذبه بالجلوسِ معها إلى حدودِ غروب الشمس، وكلماتها المزدحمة في ذاكرة موبايله كانتْ تتحدثُ عنها كلّما تكدّس الهباءُ في ذاكرته.. كانَ يتتأتأ وهو يحاولُ قراءتها كلما اجتاحه القُنوط من رفقةِ التوْق المُفتري، يقرؤها مصوّرة، تنتحبُ بالحياة.. ابتدع مباراة الفراق؟ فرغبَ أنْ يضمّ زهرته المحببة هنا. من الشّرّير الذي أخذَها منه، هنا

 

من على بعد أميالٍ ظهرتْ أنوارُ المرفأ الخافت، كانَ لونُ الغسق الأصفر يختلطُ بقتامِ السّحب الصّاعد في غضبه، ففرشاة الهواءُ تبدعُ خلط الأصباغ، لكنّ لا علامة لمُحيّا صديقته، القتامُ كان يزدردُ كل التّكوينات، ومشى بجهة الأفق المتقد كنارٍ، رنّ موبايله، وقالَ إنه رقم عجيب، ليس محتفظا به على لائحة أصدقائي، يتمهل قليلا، ليس له شهوة في الكلام الإتيكيتي، كان يكره السؤال السرمدي: ماذا تعمل وكيف أيامك؟ لم يدر كيف ضغط إصبعه على الزّر، فانفتح خطّ الموبايل وقال منْ معي؟ فردّ صوتٌ أُنثوي أنا، فقالَ لها لا تبددي وقتي، وانطقي منْ أنتِ؟ فردّت ألا تتذكرني هذه أنا ناتاشا، فنطّ من مطرحه، وحاولَ الحفاظ على هدوئه كيْ لا يضعفُ، استعلمَ مشدوها بحسّ يرتجفُ: ناتاشا تلك الفتاة المرحة..

 

فقال في ذاته: ماذا عليّ أنْ أردّ عليها، فهي ما زالت تنتظر على الموبايل ؟ أأحكي لها: منذ ابتعدنا وأنا أخاطب الشّمس لربما ترسلُ لي بمؤمنةٍ تكونُ آخر نسل من هنا في هذا الكوكب.. أم أعدّ لها كم دعاء ابتهلته لكلّ الأرباب الممكنة وتلك المستحيلة أيضا كي تتقبلني ناسكاً أخصص حياتي لصدر المعبد، فلمْ أمسك بيديّ امرأةٍ غيرها.. أأوضح لها كم كلْما في باطني بقي مخلصا للنزف؟ أأخبرها كم من سحابةٍ شيلتها صورها فانتشرتْ كعجاج النراجيل السيئ؟ أتدري أنّ كرسيّها بجانبي لا زالَ شاغرا في الحانة والحقل وصالة درس الرقص والحافلة القديمة ؟..لا زالتْ تنتظر ردّه وراء هذا الموبايل، كيف تفصله قطعة الحديد هذه المشحونة عنها، كانَ يحسّ بأنفاسها الخافتة يستنشق أريج فمها، فلا زالتْ تنتظر ردّه، المرأة المنحنية الظهر الجالسةُ بالقربِ منه حدّقت عيناها كما لو أنها وجدتْ روحا شريرة، ظهرها مقوّس كنبات قصبِ الشتاء ترتعدُ، تلتقط أذنيه صرخة طفل محروم، تنتابه رعدة تسري فيه كتيارِ ضغطٍ كهربي عالٍ، استجمع قواه وتمتم وهو غير قادر على إعطاء ردّ، كان نهرٌ من الأسئلة يخرّ في عقله، تقطّع صوته حتى بدا كصوت امرأة عجوز أصابتها بلية، كانتْ لديه رغبة في أن يصيح بألمِه، أن يؤخّر كل شيء، أن يجتاز الأسئلة الباهتة، أن يقول كل شيء لها، ولكنه خابَ، وقال لها أنه بأحسن حال، كانت المرأة العجوز تبحلق فيه وصُوّرَ إليه أنها تهزأ من افترائه، كانت تتفحّص سحنته وتعي جيدا أنه ليس على ما يرام، وناتاشا بدورها لم تتلاش من شعوره، ولكنها كانت ذهولا خياليا، فبعد اختفائها المباغت كغسق صافٍ، آبتْ لتبيت ذهولا مشرقا، فلم يردْ أن يقول بأنه امتنع عن حبّها، بل على العكس كانت تقطنه كشبح، وكان يرغبها بكل حبّ.

 

وبينما كان ينظر إلى الموبايل قال ما هذا الرقم الذي يعاود الاتصال بي، فأسكت موبايله، ووضعه برفق داخل جيب بنطاله، نظر إلى الغسق من خلال زجاج النافذة المغبش، الباخرة على وشك الرسو، ردد صوته في صدره كرجلٍ كهل مريض بالسّل وقذف من جوفه الشنط والمارّين، وأغلق قميصه البالي وشرعَ بالخروج بتؤدة، شقُّ البشرَ المحتشدين وتلاشى كسحابة مارّة.