أثار نجاح المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب يوم 7/11/2016، الكثير من التساؤلات لسببين:
أولهما: لأنه حقق المفاجأة حينما تفوق على ستة عشر مرشحاً جمهورياً، لم يكن هو أكثرهم حضوراً وخبرة ولمعاناً، بل اعتبر ترشيحه مجرد "مزحة" من قبل رجل أعمال ثري لديه رغبة في الظهور وترديد اسمه في الإعلام، وعندما فاز على منافسيه الجمهوريين، لم يرق ذلك للعديد من القيادات الجمهورية بمن فيهم الرئيس بوش الذي رفض علناً التصويت له وعبر عن حرج الجمهوريين في أن يكون مرشحهم يحمل ما يحمل من مواقف صادمة، ومع ذلك واصل ترامب طريقه بحزم في خوض التنافس باسم الحزب الجمهوري نحو انتخابات الرئاسة الأميركية.
والسبب الثاني: حينما حقق الصدمة التي اجتاحت الأميركيين والعالم حينما هزم منافسته مرشحه الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون المعروفة والسياسية والمهنية المتفوقة ونال رئاسة الولايات المتحدة، وأحبط كل استفتاءات الرأي، وهزم انحياز كبريات الصحف ومحطات التلفزيون الأميركية التي كانت تعطي كلينتون التفوق وإمكانات الفوز على مرشح جدلي من خارج التوقعات.
لقد قيل الكثير عن عوامل نجاح ترامب المفاجئ والصادم للمراقبين الأميركيين وللعالم، وغاص المتفلسفون في البحث عن العوامل الكامنة وراء نجاح هذا الرجل، ولكن الغالبية الساحقة من المراقبين ذهبوا بعيداً في تحليلاتهم ولم يصلوا إلى أهم عاملين أساسيين صنعا من ترامب رئيساً وهما:
أولاً: أن أميركا بلد الفرص التي لا تمنع أيا كان، ومهما كان أصله ولونه أن يصل إلى أرقى المواقع وأرفع الوظائف، كما حصل مع الرئيس أوباما، ومع مادلين أولبرايت التشيكية وزيرة الخارجية، ومع المستشارة كونداليزا رايس من ذوي الأصول الأفريقية السوداء.
وثانياً: الديمقراطية الأميركية التي تسمح عبر الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وتداول السلطة، لكل من يتطلع للترشح لأن يصل إلى مواقع صنع القرار الرئاسي أو التشريعي، إنها القيم الأميركية التي ترسخت حول احترام حقوق الإنسان للمواطن الأميركي.
نختلف مع السياسة الأميركية، ونتأذى منها كشعوب عربية، بسبب: 1- انحيازها للمشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي القائم على أرض فلسطين، و2- دعمها للأنظمة غير الديمقراطية في العالم العربي بشكل خاص، و3- تبنيها لأحزاب التيار الإسلامي وتحالفها معهم طوال الحرب الباردة لمواجهة الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفييتي ضد أنظمة عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد ومنظمة التحرير الفلسطينية واليمن الجنوب، ما يجعلنا ويدفعنا للتعامل مع الولايات المتحدة برؤية واقعية نحو المعطيات الأميركية، ومفرطين نحو العداء لها، ولا نرى منها سوى الشر والخصومة، ونرفض قبول ديمقراطيتها، ونلعنها كبلد رأسمالي متوحش لا يجلب سوى الدمار والخراب لبلادنا وشعوبنا، قافزين عبر عين واحدة لا ترى ولو قطرة صغيرة من الكأس غير المملوءة، وغير الفارغة في نفس الوقت.
ترامب نتاج أميركا بلد الفرص المتاحة للإنسان، وبلد الديمقراطية التي لا يقبل أصدقاؤها من الحكام العرب تقديمها لنا كنموذج للديمقراطية والاحتكام لصناديق الاقتراع وتداول السلطة، ومع ذلك علينا أن نسلم بحقيقتين أولاهما: أن الذي يحكم أميركا مؤسسات تصنع الرؤية، وتقدم المعلومة، وتقدر الموقف، ليكون أمام الرئيس والكونغرس والخارجية والجيش وأجهزة المخابرات، وهؤلاء عبر مجلس الأمن القومي الأميركي هم الذين يشكلون الموقف ويتخذون القرار، وليس مجرد رغبة لدى رئيس أو نزوع لدى شخص، وهذا لا يتعارض مع أصحاب النفوذ وأجندات سياسية واقتصادية يعملون نحو اختراق مؤسسات صنع القرار، وتوجيه اهتماماتها خدمة لمصالحهم، كما يفعل اللوبي اليهودي الصهيوني دعماً للمشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي وتغطية لجرائمه، وحماية لسياساته العدوانية الإحلالية على أرض فلسطين وعلى حساب شعبها وحقوقه العادلة.
أميركا نموذج مفتوح مقروء للديمقراطية وبلد الفرص المتوفرة، وغير ذلك تفاصيل مشروعة مهما علمنا وأدركنا أن عوامل المال والأعمال والإعلام والتحالفات تلعب أدواراً مكملة في المساعدة واختزال عوامل الزمن، واختصار الطريق والمحطات وصولاً إلى المواقع المتقدمة في صنع القرار، وها هي التظاهرات التي تجتاح العديد من المدن الأميركية رفضاً لنتائج الانتخابات ونجاح ترامب، تقدم المزيد من التأكيد على خيار الديمقراطية وشروطها ومتطلباتها لبلد يسمح بما لا يتوفر للآخرين من فرص التعبير المدني والسلمي الشجاع.