صمود ميركل في وجه الشعبوية

321568863b04ec5c3300eb4c76e7e45272fd9d961
حجم الخط

إحدى أبرز سمات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تأنيها أكثر من الآخرين في اتخاذ قرار. وهذا النهج الحذر خدمها جيداً، فقد جنَّبها منتقدين أو منافسين كثيرين في الوقت الذي تنتظر فيه ألمانيا وجهات نظرها ومنحها وقتاً لدراسة الرياح السياسية ومسار التغير إذا لزم الأمر. ويوم الأحد الماضي، قررت المستشارة التي قادت الحكومة الألمانية على مدار الأحد عشر عاماً الماضية، أنه قد حان الوقت لتعلن ما قد يكون أكثر مشروعاتها طموحاً وهو مسعاها لتولي منصب المستشارية لفترة ولاية رابعة.
شاعت في العام 2013 أخبار عن استقالة ميركل حتى قبل انتهاء فترة ولايتها الثالثة. لكن المراقبين السياسيين في برلين قللوا بوضوح من شأن عزيمة المستشارة الألمانية. والآن تصفها مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المعلقين بأنها «زعيمة العالم الحر» مع اقتراب رئاسة باراك أوباما من نهايتها ومع مسعى بريطانيا الصعب بشأن خطط مغادرة الاتحاد الأوروبي، وفي ظل مواجهة فرنسا صعوداً شعبوياً مثيراً للقلق. ورغم أن ميركل اتخذت قرارات لم تحظَ بشعبية مثل السماح بدخول البلاد نحو مليون لاجئ العام الماضي فإن معدلات التأييد لها ما زالت أعلى مما يتمتع به خصومها.
ويرى البعض أن انتصار دونالد ترامب جعل ميركل ربما أكثر الأفراد نفوذاً في الغرب من غير الشعبويين. لكن لأن ميركل انتقلت إلى يسار الطيف السياسي، فقد تركت فجوة إلى يمينها. وفي ألمانيا تواجه ميركل حركة قوية من حزب «مبادرة البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف والمناهض للنظام السياسي القائم. وهذا الحزب ما كان ليظهر لو لم تلتزم ميركل بالأيديولوجيات الحزبية الأكثر تقليدية. وفي السنوات الإحدى عشرة التي حكمت فيها أصبحت السياسية المحافظة بطلاً للقيم الليبرالية وتفوقت على الألمان من الجناح اليساري لكنها ابتعدت عن بعض من أنصارها الأكثر تقليدية.
وحددت ميركل في كلمة لها، الأحد الماضي، أن عودة الخطاب السياسي الذي يتصف بالكراهية هو أحد الأسباب الذي جعلها تقرر خوض السباق على المنصب. وقلصت التوقعات بقولها إنه من «العبث» الاعتقاد أنها وحدها قادرة على التصدي للزخم الشعبوي. ويجادل بعض الأشخاص بأنها أثبتت عكس ذلك من قبل. وصعود ميركل إلى السلطة اكتسب زخماً في العام 2000 حين انتُخبت رئيساً للحزب «الديمقراطي المسيحي» بعد فضيحة تبرعات اضطرت معها معظم قيادات الحزب إلى الاستقالة.
فحين ذاك، دافعت ميركل عن مواقف سياسة محافظة تعارضها الآن. وعلى سبيل المثال، في العام 2002، أقرت بياناً حزبياً امتلأ بخطاب مناهض للمهاجرين. والجدير بالذكر أن «جيرهارد شرويدر» المستشار الألماني من الحزب «الديمقراطي الاشتراكي» طبَّق إصلاحات واسعة النطاق لم تحظَ بشعبية ليجعل اقتصاد ألمانيا أكثر تنافسية، لكن ميركل هي التي استفادت من هذه الإصلاحات. فقد تولت المنصب في العام 2005 قبل ثلاث سنوات من الأزمة المالية التي أضرت بألمانيا والعالم. ولم تكن سياسات ميركل في ذاك الوقت بارزة لكنها عرفت كيف تخاطب لب قاعدة مؤيديها.
وتعززت معدلات التأييد لها ثم تعرضت لضعف بعد الأزمة المالية التي كبَّدت ألمانيا الآلاف من فرص العمل في عامي 2009 و2010. ولم تستعد ميركل الدعم الذي كانت تحظى به قبل الانهيار الاقتصادي إلا في العام 2013. وفي العام 2011، هزت كارثة محطة الطاقة النووية في منطقة فوكوشيما اليابانية العالم، وكان أكبر تأثير لها في ألمانيا. فقد جعلت الكارثة ميركل تتخلى عن توليد الطاقة النووية في المدى الطويل. وكان هذا هدف أحزاب ألمانيا التي تميل إلى اليسار أكثر منذ عقود. وفي غضون بضعة أيام حطمت ميركل واحداً من خلافاتهم المحورية معها وأذهلت ناخبيها الليبراليين. فقد شعرت ميركل أن ألمانيا أصبحت أكثر ليبرالية مما يريد أن يعترف به حزبها.
وتكررت «لحظة فوكوشيما»، العام 2015، حين رفضت ميركل إغلاق حدود ألمانيا في غمرة تدفق من اللاجئين. وأشاع التقاطها صوراً مع لاجئين الحماس لأسابيع في ألمانيا. وهذه الأسابيع قد تصبح أكبر ضعف لميركل. ومعدلات التأييد لها انخفضت بعد صعود حزب «البديل من أجل ألمانيا» وتحرش مهاجرين بسيدات وأيضاً وقوع موجة من الهجمات الإرهابية صيف العام الجاري. ولا يرى إلا قلة أن حزب «البديل» لديه ما يكفي من القوة ليمثل تهديداً قوياً لطموحات ميركل في الحصول على فترة ولاية رابعة. وفي المدى الطويل، فإن قرار ميركل بعدم الدفاع عن مواقف السياسة المحافظة التقليدية ربما كان له تأثير مستدام على السياسة الألمانية. ودأب حزبها على استكشاف المدى الذي يستطيع حزب ألماني محافظ الذهاب إليه يميناً. والوضع لم يعد كذلك، وهناك مساحة انفتحت يمكن استغلالها بناءً على مزاج الناخبين.